أشتاق لليمن... أوروبا عادية

09 ابريل 2018
+ الخط -
"تلك الأغنيات القديمة التي كبرنا معها، التفاصيل البسيطة، رائحة الأرض بعد هطول المطر في قريتنا الريفية، الأصدقاء، الأهل، أحنُّ إلى كل شيء من ذلك دفعة واحدةً الآن، أشعر برغبة كبيرة في الطيران"... هذا ما قلته لصديقي، ولكنه رد عليَّ بضحكة ساخرة: أنت في إسطنبول. هل ما تزال تفكر حقاً بالعودة.. هل أنت مجنون؟

يا صديقي.. اليمن وطننا، هل تدرك ما يعني هذا؟ كأنك تطلب الآن مني أن أتخلى عن بلدي، تريد أن أفكر جدياً في خيار البحث عن وطن بديل، تحدثني عن الهجرة وعن أوروبا، عن مغامرة الهروب عبر البحر، أو البحث عن خدعة خطيرة للتمكن من النزول في أحد مطارات العالم، وتشرح لي تفاصيل العيش في غرفة خشبية وسط غابة مليئة بالثعابين هناك في البداية، ثم انتظار هوية بديلة أستخدمها لأشهر قبل أن أحصل على جواز سفر بعد سنوات وأصبح مواطناً عصرياً من دول العالم الأول.. امنحني لحظةً دعني أفكر.. أرجوك!


لغة جديدة وهوية جديدة وحياة أخرى جديدة، هل هذا ما تقصد أن أبحث عنه وتخبرني أن أبني مستقبلي من خلاله وأكون ذكياً باقتناص الفرصة، حسناً فهمت كل هذا الآن.. لكن امنحني وقتاً إضافياً لأفكر.

لا يا صديقي، لم أقتنع بالفكرة، أشعر بأني مشتاق لليمن أكثر من أي شيء، هل تعرف، قالت لي أمي بأن الأمطار هطلت على قريتنا مؤخراً وأن خزاننا مليء بالمياه وأن ما لديهم من أموال يكفيهم شهرياً رغم قساوة الظروف هناك، وصعوبة توفر حتى أسطوانة الغاز المنزلي، لكن أشعر بأن هناك شيئاً لا أقدر أن أقوله لك ولا يمكنك فهمه، شيء ممزوج بشعور الروح ومختلط بالوجع والمعاناة ورائحة الأرض وأصوات الناس وأشكالهم، وكل ما يمكن أن تتخيله من الغجرية والسوء لكنني أريد أن أعيشه، أعود إليه ليس هناك مشكلة، أريد أن أكون يمنياً فحسب، تأكد أني سأحاول أن أكون سعيداً رغم كل شيء.

أريد يا صديقي أن أخرج مع اليمنيين للتسوق واقتناء أشياء بسيطة كقميص عادي ليس من صنف الماركات العصرية، أريد أن يكون لي طفل يكبر ويتعلم لغة بلده ويتعرف على أصدقاء يشبهونه، دعني أكنْ سطحياً وأقول لك: أوروبا عادية جداً وأن اليمن يستطيع أن يهزني بذكريات أغنية على "يوتيوب" ولا أريد سوى سماعها هناك في أعالي الجبال، في طرقات السفر في وسائل المواصلات، وفي كل مكان.

أرغب أن أعيش وأسمع لهجات الفلاحين وأصوات النساء في فناء منازلهن بقريتنا البسيطة، أحب يا صديقي أن أختار مستقبلي بحريتي وإرادتي.. في بلدنا لا فرق إن كانت الحياة قاسية أو رغيدة، على الأقل لن أشعر بأني غريب عن العالم الذي جئت منه كلما سمعت أصوات المارة من حولي، مجرد التفكير بالعودة إلى اليمن يجعلني أشعر باطمئنان.

ليتك تعرف كم هي الحياة جامدة هنا وجادة أكثر من اللازم، دعني أقل لك أن إسطنبول مدينة حضارية وخيالية لا شك، لكنها عادية في الوقت ذاته، الناس فيها يكادون لا يتحدثون إلا مع ماكينات الصراف الآلي ولا يبتسمون إلا في وجه هواتفهم المحمولة، روحي يا صديقي تهوى بساطة اليمني العادية لنا طقوسنا ومزاجنا المختلف والمتجدد.. لست ضد الهجرة ولكن لدي أمل كبير بالعودة إلى بلدي والعيش فيه عزيزاً، ذلك أبسط حقوقنا فكيف لأحد أن يحرمنا منه يا صديقي كيف؟

لك أن تتخيل أيضاً. صديقٌ آخر هنا تعوَّد على روتين الحياة اليومية: يقول بأنه أصبح يستيقظ كل صباح ويذهب الى العمل بلا روح ولا شغف وكأنه روبوت آلي، وتلك هي إسطنبول بقدر ما تستطيع أن تسرق منها لحظات للتأمل والفرح يستهلكك الانشغال الجاد بالعمل فيها ويسلب جزءاً من طاقتك وهو الأمر الذي لا يمكنك تعويضه.
8BF94059-E288-4093-BDD5-60EAE25F5C1F
محمد عبد الملك

صحافي يمني... أعمل في غرفة أخبار قناة بلقيس الفضائية - إسطنبول، وأكتب في العربي الجديد.أعرف نفسي بـ: اليمن السعيد هو تلك التفاصيل البسيطة التي تبقى روحي معلقة بها ولو كنت في أقصى الأرض.

مدونات أخرى