أسكتلندا .. استحقاق الدولة المستقلة في 2017

24 نوفمبر 2015

مراقبون: نيكولا سورجيون ستكون أول رئيسة لاسكتلندا المستقلة (مايو/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
يبدو أن التطورات السياسية والشعبية شبه المتسارعة في أسكتلندا حالياً، آخذة، من جديد، بالعودة إلى التداول بمشروع الانفصال عن بريطانيا، وتحقيق دولة الاستقلال الناجز والتام. تأكد ذلك أكثر فأكثر، بعد الاستفتاء على الاستقلال الأسكتلندي الذي جرى في 18 سبتمبر/أيلول 2014، وكانت نتيجته أن 55% من المستفتين الأسكتلنديين لا يريدون الانفصال، لكن هذه النتيجة التي اعتبرها ألكس سالموند، زعيم الحزب القومي الأسكتلندي السابق (SNP) تسوية لجيل كامل بين الأسكتلنديين والبريطانيين، ردّت عليها زعيمة الحزب القومي الأسكتلندي الحالية، نيكولا سورجيون، إنها بالتأكيد ستعيش (ما خلا إرادة الله) لتشهد ولادة الدولة الأسكتلندية المستقلة، وعاصمتها إيديمبورغ، في أسرع مما ينبغي. وهذه المرأة الحديد، البالغة 45 سنة، ستكون في رأي مراقبين أوروبيين كثيرين الرئيسة الأولى للدولة العتيدة المقبلة.
وليس الكلام عن مسألة التسوية لجيلٍ كاملٍ (بحسب ألكس سالموند) بالأمـر اليقين؛ إذ في وقت كانت فيه غالبيّة المراقبين تتوقع تراجع الحزب القومي الأسكتلندي (بعد فشله في الاسـتفتاء)، فإن ما حدث كان العكس، فالانتسابات إلى الحزب الاستقلالي تضاعفت منذ عام 2014 أربعة أضعاف، وناخبون كثيرون ممن صوّتوا "لا"، إبّان الاستفتاء، عادوا فتقاربوا معـه. وبعد أقلّ من مرور سنة على الاسـتفتاء، حقق الحزب اختراقاً مدوياً في الانتخابات الـبريطانية التي جرت في 7 مايو/أيار 2015، حيث فاز في 56 دائرة من دوائر أسكتلندا الـ 59 التي تعود لأسكتلندا. وحتى لو لم يحصل إلاّ على 5% من الأصوات على مستوى بريطانيا كلها، إلاّ أن تركّز ناخبيه جعل منه ثالث أهم حزب على المسرح السياسي البريطاني، بسبب عدد مقاعد النواب التي يستأثر بها في وسـتمنسـتر.
وعلى هـذا، فإن المسـألة الأسـكتلندية لم تقفل، لكنها ستسم بميسمها السياسة البريطانية والأوروبية للسنوات المقبلة. ووفقاً لاستطلاعات رأي، في الآونة الأخيرة، فإن الآراء التي تؤيـّد اسـتقلال أسكتلندا تتجاوز الـ 58 % اليوم، والحبل على الجرار صُعُداً، كما يقولون.

اللامساواة ودوافعها
لم تكن مسـألة اللامساواة في كل شيء تقريباً مع الدولة/ الأم، غريبة على تصاعد قوّة التيار الاسـتقلالي الأسـكتلندي، فاسـكتلندا أمـّة صغيرةٌ لا تتمتّع بالسيادة، تقع في شمال بريطانيا وتضمّ 5.3 ملايين من السكان (أي 8.83% من مجمل تعداد بريطانيا)، ولطالمـا شعرت أنهـا مهمّشة، وأن المشكلات الاقتصادية التي هزّت بريطانيا، في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، نالت منها، هي بالذات تحديداً، بحيث أنها كانت تسـجّل، في بعض الفترات والحقب، معدلات بطالة أرفع من معدلات أنجلترا بضعفين، وأصبحت ضحيّة هجرة عمّالها و"فرارهم" منها.

أمـا أسباب هذا التغيّر فعديدة، وكمـا يلاحظ معظم محلّلي الانتخابات، فإن "علمنة" الحياة السياسية، أو دنيويّتها، واستقلالها بنفسها عن الحياة الدينية، تـدفع عدداً متزايداً من العمال البروتستانت الأسكتلنديين، إلى الالتحاق بحزب العمّال، (ومن ثـمَّ بالحزب القومي الأسكتلندي). فأمـّا الطبقة الوسطى، فإنها تصوّت لليسار في أسكتلندا بأكثر مما تفعل ذلك في أنجلترا. ويفسر هذا العامل المزدوج لماذا ظلّ المحافظون الذين تبنّوا منذ 1970، أفكاراً نيو- ليبرالية يحققون نتائج سلبية في أسكتلندا، في حين أن الأمر مكّنهم من العودة إلى السلطة في لندن في 1979.
وإذا كانت "المحافظة" في لندن تؤاتي حزب العمال في أسكتلندا، فإنها تؤاتي، أيضاً، الاختراق الاسـتقلالي، فالحزب القومي الأسكتلندي الذي سجّل أوّل نجاحاته الانتخابية منذ نهاية السـنوات 1960، يلعب ورقة العداء "للمحافظة" والمحافظين بعمق. فهكذا كان الحال في عهد المحافظ، إدوارد هيث (1970- 1974)، كما في عهود مارغريت تاتشر (1979- 1990). فسياسات السيّدة الحديد، المفرطةُ في محافظتها، ووضع المحافظين دولة العناية موضع إعادة نظر، وتفكيك المرافق والخدمات العمومية، وخصخصة المؤسسات العمومية، والهجوم على النقابات، وتمجيد المملكة المتحـدة، وقمع القوميين الإيرلنديين....إلـخ، ذلك كله كان يؤاتي الاختراق الانتخابي الذي بدأ الحزب القومي الأسكتلندي يحققه اعتباراً من 1980.
تتفسّر هذه التطوّرات الانتخابية كذلك بالانفراج الاقتصادي الذي عرفته أسـكتلندا منذ اكتشاف وجود احتياطيات نفطية مهمة في المياه الأسكتلندية، في السبعينيات، فقد كان هذا الاكتشاف بالنسبة إلى القوميين الأسكتلنديين غنيمة جاء بها الغيب. وهكذا، فإنـهم راحوا يتّهمون لندن بالإفادة من النفط، لتشجيع النموّ في إنجلترا، على حساب القطاعات الكبرى من اقتصاد أسكتلندا، وشـنّوا حملة تعبئة واسـتنفار ضدّها تحت شعارٍ واضحٍ لا لبس فيه: "إنـه نفط أسكتلندا "It’s Scotland’s Oil".
ووفقاً للقوميين الأسكتلنديين، من شـأن الريع النفطي أن يؤمّن قابلية أسكتلندا المسـتقلة على الحياة، ثمّ إن الحزب القومي الأسكتلندي بدأ يحلم صراحة، وعلى نحو متزايد، بقيام دولة اجتماعية على غرار النرويج، ذات الخمسة ملايين نسمة، وباتت تتمتع، هي الأخرى، بالريع النفطي منذ السبعينيات، وأصبحت تحتل منزلة متقدّمة بين أغنى بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE). (ترتيب أسكتلندا لجهة نصيب الفرد من السكّان من الناتج المحلي القائم يضعها في المرتبة 14 بين بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية المذكورة، أمام بريطانيا المرتبة 18).


أسكتلندا نعم.. أسكتلندا لا
منذ 25 من مايو/أيار 2012، كانت الحركة المؤيّدة لـ"نعم"، والتي يدعمها الحزب القومي الأسكتلندي، والحزب الأخضر الأسكتلندي (البيئيون) والحزب الاشتراكي الأسكتلندي قد شنّت حملتها تحت شعار"أسكتلندا نعم". بعـد ذلك بشـهر، شُـنّت حملة من أجل بقاء أسكتلندا في المملكة المتحدة، تحت شـعار "معاً، خيرٌ وأولى". وكان زعيم معسكر الـ"لا" هو أليسـتير دارلنغ، وهـو وزير خـزانة سـابق في حكومة المملكة المتحدة، أمضى حياته السياسية في صفوف حزب العمال البريطاني. وقـد حظيت هذه الحركة بدعم المحـافظين والعمّاليين والليبراليين الديمقراطيين.
وفي حين أن الـ"لا" كانت تبدو أغلبية، وفقاً لاسـتطلاعات الرأي، إلاّ أن الحملة الاسـتفتائية اتّسمت بصعود باهر لـ"نعم" في الأسـابيع التي سبقت الاقتراع؛ فقـد حاولت الأحـزاب البريطانية الكبرى أن تعطي ضمانات للأسكتلنديين، فضاعفوا من وعود نقل السلطات في حال انتصار "لا". وقـد آتت الحملة أُكُلها. ففـازت "لا" بأغلبية مريحة من عشر نقاط. ومع هذه النتيجة المحزنة، استقال ألكس سالموند من منصبه وزيراً أوّل، وحلّت محلّه نائبته، نيكولا ستورجيون. وعلى الرغم من أن نسبة المصوّتين بـ"نعم" جاءت أعلى ممّا توقّعه الحزب القومي الأسكتلندي، في البداية، إلاّ أن النسبة التي حقّقتها "نعم" مثّلت ظفراً معنوياً للقوميين الأسكتلنديين.

نجاح انتخابات 2015
يبقى أن الحزب القومي الأسكتلندي لم يدع نتيجة الاسـتفتاء تقنطه، فراح يستعد ويعبّئ لانتخابات 7 مـايو/أيار 2015 البريطانية. وكمـا بتنا نعلم، فإن حزب المحافظين، بزعامة ديفيد كاميرون، هـو الذي فاز فيها، حين نال 37% من الأصوات، وظفر بـ330 مقعداً من أصل 650 في مجلس العموم، فبات في وسعه تأليف حكومة أغلبية، غـير أنـه لم يُفلـِح في إنجـاح نائب واحد في اسكتلندا. أمّـا حزب إد ميليباند العمّالي فكانت هزيمته موجعة على المستوى البريطاني (لم يحتفظ إلاّ بـ 232 نائباً، كما كانت مؤلمة في أسكتلندا، حيث لم يحتفظ إلاّ بدائرة، وخسر 39 مقعداً هناك. وكذلك، فاز الليبراليون الديمقراطيون بمقعد واحد في أسكتلندا، ومثلهم حزب استقلال المملكة المتحدة (UKIP)، (أي مقعد واحد أيضاً). وأمـا الحزب القومي الأسكتلندي، فظفر بخمسين مقعداً جديداً، وظهر كأحـد الظافرين الرئيسيين في هذه الانتخابات.
كيف يمكن تفسير انتصار الحزب القومي الأسكتلندي في أسكتلندا في انتخابات 7 مـايو/أيار 2015؟ كان الحزب حسن التنظيم على الأرض، لا سيّما بعد الجهود الحثيثة التي بذلها لتعبئة الناخبين إبّان الاسـتفتاء الأخير. فالحزب القومي الأسكتلندي يمتلك تنظيماً أفضل من تنظيم المحافظين في أسكتلندا، ومن تنظيم العماليين أيضاً. وأعضاؤه أحدث سناً من أعضاء الأحزاب الأخرى، وهم نشطون في وسائل الإعلام الاجتماعية. ويرى مراقبون كثيرون، بما في ذلك مجلة الإيكونوميست الأسبوعية التي لا يمكن أن تكون موسومةً بشبهة تأييد الحزب القومي الأسكتلندي، فإن نيكولا ستورجيون كانت، من بين سائر المرشحين، أفضل من خاض حملة انتخابية.


ماذا يخبّئ المستقبل؟
ينبغي رصد تطوّرات مهمة عدّة، تتعلّق بالحزب القومي الأسكتلندي في السنوات القليلة المقبلة. فالانكماش الاقتصادي والتخفيضات الكبيرة التي فرضها التحالف المحافظ الليبرالي، في الموازنة، زاد منذ عام 2008 من تراجع شعبية حكومة ويستمنستر في أسكتلندا؛ ثم إن ردّ الحكومة البريطانية على الأزمـة حفّز الحزب القومي الأسكتلندي على التمايز عن لندن، معارضاً المشروع النيو- ليبرالي على الطريقة الأميركية، والذي تبنّاه الائتلاف المحافظ الليبرالي الذي يمسك بالسلطة، بمشروعه الاشـتراكي الديمقراطي على الطريقة الإسـكندنافيّة. ويؤكد الحزب القومي الأسكتلندي أن عائدات النفط لا تجعل من أسكتلندا المستقلّة حقيقة قابلة للحياة، لكنها توفر لها، في المقابل، وسائل بناء دولة رعاية أكثر كرماً. وإعادة انتخاب حكومة ذات أغلبية محافظة تُنبئ بتواصل سياسة التقشّف الاقتصادي، الأمـر الذي يؤكد وجهة نظر الحزب القومي الأسكتلندي، وبالتالي، يعزّز من مشروعه.
وثمّة إشـكاليّة تحتل المرتبة الأولى من الأهميّة أيضاً، هي مسـألة الاسـتفتاء على "البركسيت"، أي مسألة خروج بريطانيا من الاتحـاد الأوروبي، فقد وعدت حكومة ديفيد كاميرون الجديدة بإجـراء اسـتفتاء على بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في موعد يتراوح بين اليوم والعام 2017. وحتّى لو أن رئيس الحكومة البريطانية أعلن أنه سـيصوّت شخصياً لمصلحة بقـاء بريطانيا في الاتحـاد، إلاّ أن قرابة ستين نائباً محـافظاً أعلنوا، منذ اليوم، تأييدهم خروج بريطانيا من الاتحـاد. ومذ ذاك، تطوّرت السجالات في أسكتلندا مع شيءٍ من السخرية، هذه المرّة، فقوميو الحزب القومي الأسكتلندي يتّهمون ديفيد كاميرون بـ"الانفصاليّة" الآن، ويهدّدون بإجـراء اسـتفتائهم الخاص، من أجل استقلال أسكتلندا وبقائها في الاتحـاد الأوروبي.
هكذا، لن يعدم الحزب القومي الأسكتلندي والمحافظون، في هذا السياق الجديد، أسباباً للصدام. وفي الإجمال، وضع رئيس حكومة أسكتلندا السابق، ألكس سالموند، والذي أصبح زعيم الحزب القومي الأسكتلندي في مجلس العموم، شـرعية ديفيد كاميرون في أسكتلندا موضع إعادة نظر؛ ذلك أن المسـألة هنا هي مسـألة شرعيّة، إذ أخلى الحزب القومي الأسكتلندي أسكتلندا تقريباً من الأحزاب المنافسة له، حين فاز بـ 56 مقعداً. والنكتة التي أطلقها سـالموند عن حيوانات "الباندا" في حديقة الحيوان في إيدبنبورغ، وعددها اثنان، وأنها أكثر عدداً من النواب المحافظين في أسكتلندا، لأن تعدادهم نائب واحد، باتت تنطبق على سائر الأحزاب البريطانية هناك.
هكذا، فالأرضية خصبة للحزب القومي الأسكتلندي من أجل الفوز الكاسح في موعـدٍ انتخابي جديد في عام 2016. فإذا مـا حصل القوميّون على ما يكفي من أجل تأليف حكومة أغلبيّة، فمن المؤكد أن تطالب نيكولا ستورجيون، زعيمة الحزب القومي الأسكتلندي، باستفتاء جديد عن اسـتقلال أسكتلندا؛ وسيترجم هذا الاستقلال نفسه في دولة مستقلة ذات سيادة.. وليس مستبعداً أن يكون ظهور هذه الدولة مطلع عام 2017، في رأي المحلل السياسي الأميركي من أصل بريطاني، جون ف. سكوت.

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.