فالقوى الأساسية التي تدفع أسعار للهبوط، وهي زيادة المعروض خارج "أوبك" من النفط والغاز الصخريين وضعف نمو الطلب نتيجة لترشيد الاستهلاك واستعمال مصادر أخرى للطاقة، كانت واضحة بجلاء منذ عامين على الأقل.
فقبل عام ونصف، توقع خبراء ومحللون رداً سعودياً، في غضون عامين على أكثر تقدير، على ثورة النفط الصخري الأميركي.
وزيادة على النفط الصخري، استند الخبراء أيضاً إلى توقعات بتراجع الطلب على النفط بفعل قيام العديد من الدول المستوردة للمحروقات بإقرار إجراءات لترشيد استهلاكها.
فقد كان بدهيّاً أنه لا يمكن استمرار الأسعار أعلى من 100 دولار. فالزيادات الكبيرة في إنتاج النفط الصخري كانت واضحة في التقارير التي تنشرها كل شهر إدارة الموارد المعدنية لداكوتا الشمالية وإدارة معلومات الطاقة الأميركية.
بخصوص الطلب، مازال استهلاك المنتجات المكررة في الولايات المتحدة أقل من مليوني برميل يومياً، عما كان عليه عام 2005 وأخذا بعين الاعتبار النمو السكاني والإنتاجي، فإن الانخفاض يبلغ ثلاثة أو أربعة ملايين برميل. كما أن سعر نفط فوق 100 دولار، وإن كان يشجع الإمدادات، فإنه لا يحفز الطلب.
وقد أجرى خبير النفط المخضرم بجامعة كاليفورنيا، جيمس هاميلتون، حسابات للطلب على النفط على صعيد جميع القوى الاقتصادية العالمية وخلص إلى أن هذا الطلب سيقل بنحو 8 ملايين برميل يومياً في حال استمر تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي.
تخمة الأسواق
تضافرت العقوبات الأمريكية على ايران والحروب الأهلية والاضطرابات في ليبيا وجنوب السودان وسوريا والعراق كلها لتخفي مدى الزيادة الأساسية في المعروض في الأسواق.
وليست مفاجأة أن تكون عودة الصادرات النفطية الليبية وراء إطلاق شرارة انخفاض الأسعار. وارتفعت هذه الصادرات من 200 ألف برميل يوميا في يونيو/حزيران الماضي إلى 900 ألف برميل في نهاية سبتمبر/ أيلول المنصرم، وفق إدارة معلومات الطاقة.
وإذا كانت اضطرابات الإمدادات قد دعمت بقاء أسعار النفط فوق 100 دولار، فإن أي استئناف لانتاج متوقف سيحدث بكل تأكيد تصحيحاً حاداً، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
"أوبك" حائرة
إذا أمكن لـ"أوبك" أن تخفض الإنتاج بما يكفي لرفع الأسعار عن 100 دولار، فسيشجع ذلك على مزيد من الحفر لاستخراج النفط الصخري واستمرار ركود الطلب، ما يؤدي لتفاقم المشكلة.
في هذه الحالة، ستضحي السعودية، ومعها المنظمة، بحصتها في السوق لدعم الأسعار عند
مستوى مرتفع بصورة مصطنعة، وفي غضون أشهر قليلة أو حتى عام على أقصى تقدير، سيصبح من الضروري إجراء تخفيضات أكبر.
ويستفاد من درس يعود لثمانينيات القرن الماضي عندما انكمشت الصادرات السعودية من 10 ملايين برميل يومياً عام 1980، إلى أقل من 3 ملايين عام 1985، وإنتاج "أوبك" الإجمالي من 30 مليوناً إلى 16 مليوناً أن خفض "أوبك" لإنتاجها لن يدعم الأسعار إذا كان المعروض من خارج المنظمة ينمو بقوة مقابل ضعف في الطلب.
في أوائل الثمانينيات أيضاً، فوجئت "أوبك" بارتفاع إنتاج الاتحاد السوفيتي والصين وألاسكا وبحر الشمال، بالإضافة إلى إجراءات الترشيد الكبيرة والتحول إلى أنواع وقود أرخص، مثل الغاز الطبيعي والطاقة النووية، وكلها كانت، في الأساس، ردّ فعل متأخراً على صدمات النفط في عاميّ 1973 و1979.
وأوجه الشبه بين الفترتين قريبة بشكل غريب، ما يؤكد أنه إذا لم يكن التاريخ يعيد أحداثه بحذافيرها، فمن المؤكد أنه يسير على نفس المنوال.
حصص السوق
تماماً مثلما يحب مدير تغطية الأسواق في خدمة "بلاتس"، خورخي مونتبيك، أن يذكر الجميع، فإن أفضل علاج لارتفاع الأسعار هو ارتفاع الأسعار. لكن العكس صحيح أيضاً. فأفضل علاج لانخفاض الأسعار هو انخفاض الأسعار.
فقد كانت أحداث أوائل الثمانينيات قاسية على السعودية التي تضررت من تضافر عوامل انخفاض الأسعار وانكماش كميات التصدير، وهو أسوأ مزيج ممكن في عالم النفط.
ولرفع الأسعار في السوق تواصل السعوديون مع بريطانيا طلباً للمساعدة.
وعلى النقيض مما كان متوقعاً، مارست حكومة رئيسة الوزراء، مارغريت تاتشر، التي كانت تتبع وقتها سياسات السوق الحرة، ضغوطاً لفترة وجيزة على منتجي النفط في بحر الشمال لخفض أسعارهم.
وعندما رفضت النرويج أن تحذو حذوهم، فشلت الاستراتيجية وبدأ أعضاء "أوبك" الآخرون يتجاوزون حصصهم، فتوقف السعوديون عن خفض الإنتاج لدعم الأسعار عام 1985، وتحولوا إلى التسعير بنظام العائد الصافي لاستعادة نصيبهم الضائع من السوق، وذلك بضمان هامش محدد لشركات التكرير مقابل شراء النفط السعودي.
وأدت سياسة الأسعار وما تبعها من حرب الإنتاج، إلى انخفاض الأسعار بصورة حادة حتى إنها تراجعت لفترة وجيزة إلى أقل من 10 دولارات. وفي النهاية، كان الألم أكبر من أن يطاق، فاتفق أعضاء "أوبك" على حصص جديدة في عام 1986.
الحل الأمثل
لم تتمكن الحصص ولا تجديد التزام أعضاء المنظمة بالإنتاج بإنهاء الأزمة الحالية.
فقد ظلت أسعار النفط المعدلة، وفقاً للتضخم، ونصيب "أوبك" من السوق أقل بكثير طوال فترة
أواخر الثمانينيات والتسعينيات منها قبل الأزمة. وظلت الموازنة السعودية في عجز لما يقرب من عقدين من الزمان بفعل انخفاض الإيرادات.
وفي المقابل، أعادت فترة طويلة من انخفاض الأسعار، تدريجياً، التوازن بين العرض والطلب. إذ ثنت الأسعار المنخفضة الاستثمارات في زيادة العرض، فلم يتم تطوير أي تكوينات نفطية جديدة بعد عام 1985 حتى جاء النفط الصخري بعد 20 عاماً.
كما تم الاستغناء عن عشرات الآلاف من خبراء جيولوجيا النفط والمهندسين من أصحاب المهارات العالية في التسعينيات في عملية خفض للتكاليف وصفت بأنها "حمّام دم".
الوضع الحالي يبدو أقل خطورة مما جابهته "أوبك" في الثمانينيات والتسعينيات، فأسعار النفط مرتفعة بشكل لا يمكن أن يستمر بأي حال من الأحوال. وثمة أيضاً فائض في المعروض، لكن جانباً كبيراً منه لا يزال في بداياته الأولى، ولم يصل إلى ذروته بعد. وعلى هذا الأساس، من المنتظر أن يستعيد التوازن أسرع بكثير مما حدث بعد 1986.
وكلما طالت فترة الخلل بين العرض والطلب ازدادت سوءاً، وكان التصحيح الذي سيحدث في نهاية الأمر أعمق وأطول أجلاً.
لهذا السبب، فإن الاستراتيجية الوحيدة المعقولة للسعودية و"أوبك" تكمن في التركيز على نصيبها من السوق والسماح للأسعار بالانخفاض إلى حد ينجم عنه تباطؤ نمو الانتاج من خارج المنظمة وتقليل الحملة القائمة على كفاءة استهلاك الطاقة.