أسطورة "الإصلاح الديني"

16 يناير 2015
+ الخط -
كان الإسلام، وسيظل، أحد المصادر المهمة للشرعية الدينية والسياسية للدول والجماعات، خصوصاً في ظل افتقارها إلى شرعية حقيقية، تقوم على الإقناع والأداء أو الإنجاز. ولولا رأس المال المعنوي والرمزي والروحي الذي يمثله هذا الدين، لما تصارع عليه هؤلاء من أجل الوصول إلى السلطة واحتكارها. لذا، ليس غريباً أن يتنازع الطرفان، دائماً، أحقية استخدام الدين وتمثيله في المجال العام. وليس من قبيل المفارقة أن تلك الدول التي تمارس أقصى درجات القمع باتجاه معارضيها الإسلاميين هي نفسها التي تسعى إلى احتكار الدين لصالحها، واستخدامه بما يخدم مشروعها السياسي، مرة تحت غطاء "مكافحة الإرهاب"، وأخرى بحجة "الإصلاح الديني" كما تدّعي.
الأكثر من ذلك، يبدو الدور الوصائي الذي تمارسه بعض الدول تحت عباءة الدين، أكثر سلطوية وقهراً من ذلك الذي تمارسه الجماعات والحركات الإسلامية. فهذه الدول لا تقوم بتأميم المؤسسات الدينية ورجالها لخدمة مصالحها فحسب، وإنما، أيضاً، تسعى إلى فرض منظومتها القيمية والأخلاقية على المجتمع، من خلال مؤسسات الدولة، مثل وزارات التعليم والثقافة والأوقاف والشؤون الدينية. بكلمات أخرى، إنها تحول أن تفرض "دين الدولة"، أو الدين كما تراه هي، على المجتمع، وليس كما يراه المجتمع نفسه من خلال عملية نقاش وتدافع فكري وفقهي حقيقي قائم على حرية الاجتهاد والاختيار.
لذا، يصبح الأمر أكثر مدعاة للمفارقة، وللطرافة أحياناً، عندما تتحدث الدولة عن رغبتها في "الإصلاح الديني"، أو عندما يتحدث جنرال عسكري عن ضرورة القيام بـ"ثورة دينية"، لتطهير النصوص القديمة مما علق بها من جمود وتكلس. ومنبع المفارقة والطرافة ليس فقط أنها دعوة فوقية، وهو ما يجعلها فاقدة المعنى والمصداقية، بسبب منطقها القهري الذي يتعارض مع مسألة "الإصلاح" ابتداء، والتي يجب أن تكون عملية ذاتية نابعة ممن يقومون بها، ومقبولة لمن يتم استهدافهم بها، وليست مفروضة عليهم من دون اقتناع، وإنما، أيضاً، كونها تستهدف "إصلاحاً" يبدو مشروطاً برضاء الدولة، ومعبّراً عن رؤيتها هي للدين، وليست رؤية الأفراد أو الجماعات المتلقين لها.
بكلمات أخرى، تحاول الدول والحكومات أن تستبدل ما تراه محاولة من الجماعات والأفراد، لفرض وصايتهم وسلطتهم الدينية على المجتمع، إلى وصاية رسمية ودولتية خالصة، لا يشاركها ولا يراجعها فيها أحد. وقد يصل الأمر، أحياناً، إلى أن تتحول الدولة نفسها إلى كيان "مقدس"، لا يجب أن يتعرض له أحد بالنقد، أو أن يطالب بتقويمه وإصلاحه، وذلك بعدما يتم الدمج بين الدين والدولة، وبين الحاكم والسلطة الدينية، وذلك كما هي الحال في بلدان مثل إيران.
ما لا يدركه كثيرون، سواء الدول أو الجماعات، أن الأديان لم تتنزل لإقامة الدول والإمبراطوريات، وإنما جاءت لإصلاحها وتقويم سلوك حكامها، كبشر أولاً، ومسؤولين ثانياً. ولا يوجد دين توحيدي (إبراهيمي)، أو غير توحيدي، يسعى إلى إقامة سلطة زمنية، أو دنيوية، كهدف بحد ذاته، وإلا فقد رسالته وهدفه الأخلاقي الذي يدور حول الخلاص الفردي والجماعي من الأرض باتجاه السماء. وإنما على العكس، ففي الإمبراطوريات والدول القديمة، كانت الدولة مجرد أداة لنشر الدين وإقامته، ولم تكن هدفاً بحد ذاته، وهو أمر يبدو واضحاً في حالة الدولة الإسلامية حتى عصر الخلفاء الراشدين، وذلك قبل أن يتحول الدين إلى أداة في يد الدولة، من أجل تبرير سلطتها وأحياناً قمعها. ولم تظهر الكهنوتية والسلطوية الدينية، إلا عندما تحولت الأديان إلى أدوات في خدمة السلطان، وعندما امتلك رجال الدين السلطة في أيديهم، ففرضوا رؤيتهم وكهنوتهم على الناس، وحوّلوا الدين إلى أداة قمع وقهر، تعاقب كل من لا ينصاع للسلطة، ويصبح كل رافض لها فاسقاً أو مارقاً يستحق العقاب، وأحياناً القتل.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".