أستراليا: الطريق نحو العدالة

03 ديسمبر 2014
التعليم حق للسكان الأصليين لأستراليا رغم تشتتهم (Getty)
+ الخط -

تعد تجربة أستراليا في إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية، من خلال التعليم، من التجارب الناشئة التي ينتظرها النجاح لما تحققه من تقدم ملحوظ في توفير الفرص المتكافئة في التعليم بين أبناء هذا البلد، فقد كانت أستراليا تواجه مشكلة كبيرة في توفير فرص متكافئة، تساوي بين السكان الأصليين والسكان غير الأصليين فيها، وكانت الإحصائيات، ولا تزال، تشير إلى تفاوت ملحوظ بين معدلات دخول المدارس والجامعات بين السكان الأصليين والسكان البيض.

السكان الأصليون في أستراليا (الأبورجنيز) عانوا من القتل واستعباد أطفالهم والتمييز ضدهم طوال عقود الفترة الاستعمارية - الاستيطانية، وبدايات الاستقلال، وإنشاء أستراليا المستقلة عن بريطانيا، ولم يبدأ الاعتراف بهم كمواطنين أستراليين إلا في ستينيات القرن الماضي، حيث حصلوا على حق التصويت ثم التمثيل البرلماني في بداية السبعينيات وتوالت بعدها القوانين والتشريعات، التي تخص السكان الأصليين وقضاياهم التي خلفها الاستعمار.



وفي التسعينيات دشنت أستراليا "حركة التسامح" وهي مبادرة حكومية تهدف للاعتراف بالأخطاء التاريخية بحق السكان الأصليين، ومن ثم محاولة تصحيحها وتعديل مسارات تعامل الدولة مع قضاياهم، وقد حمل التعليم الجزء الأكبر من مسؤولية زرع قيم هذه الحركة الطَّموح، ففي عام 2007 خطب رئيس الحكومة الأسترالية، كيفين رود، معتذرا للسكان الأصليين عن جرائم الماضي قائلا: " لنعقد العزم اليوم أن نبدأ بالأطفال الصغار، فهم نقطة بداية مناسبة في هذا اليوم، يوم الاعتذار عن الأجيال المسروقة". وهكذا بدأت أستراليا خطتها في نشر قيم المصالحة والاحترام المتبادل والعدالة وعدم التمييز، من الأجيال الناشئة فهم من يصنعون مستقبل بلادهم.

ولكن ما هي المشاكل الأساسية التي واجهت الدولة عند وضع سياسة تعليمية جديدة تعنى بالسكان الأصليين وتراثهم؟

أولا: واجهتهم مشكلة المكان فأراضي أستراليا شاسعة وجغرافيتها صعبة، وتتركز المدن الكبرى في الساحل الشرقي منها بأغلبية سكانية من السكان غير الأصليين، أما السكان الأصليون فهم مجموعات صغيرة متفرقة وموزعة في شتى أنحاء البلاد. وحسب إحصاءات الحكومة في عام 2008 فإن نسبة 24 % من السكان الأصليين يعيشون في مناطق نائية ونائية جدا، وينعكس هذا البعد على الخدمات الحكومية كالطرق الممهدة والكهرباء، بالإضافة إلى الموارد التعليمية كالمكتبات وتكنولوجيا المعلومات.

ثانيا: يشير الباحثون إلى أن الاختلافات الثقافية والإرث التاريخي المثقل بالتمييز والعنصرية يقفان كعائق في التحاق السكان الأصليين بمنظومة التعليم الحكومية، فالمعروف عن السكان الأصليين اعتزازهم بالأرض وارتباطهم بالقبيلة والثقافة المتوارثة من الأجداد، وكل هذا تم التعدي عليه بعد وصول الأوروبيين لسواحل أستراليا، فمثلا كان للسكان الأصليين في أستراليا أكثر من 250 لغة قبل وصول الأوروبيين، وانقرضت كل هذه اللغات لصالح هيمنة اللغة الإنجليزية، ولم يتبق منها غير 15 لغة ما زلوا يتحدثون بها إلى الآن، لذا فإن إرث قرنين من الاضطهاد والاستبعاد من الحياة العامة في أستراليا، أثر سلبيا على مستوى التعليم الذي يتلقاه السكان الأصليون، وأثر من جهة أخرى على مدى تقبلهم هذا النظام التعليمي.

وبإجراء الإحصاءات وإقامة مراكز أبحاث ومؤتمرات لعرض آراء الباحثين وأطروحاتهم، بشأن تطوير التعليم ورأب الصدع لصالح السكان الأصليين، بدأت الحكومات الأسترالية المتعاقبة منذ التسعينيات بتغيير منهجي في سياسة تعليم السكان الأصليين، فبدأت بتحسين الخدمات الحكومية المقدمة للسكان المحليين في المناطق النائية، لما لضعف الخدمات من تأثير سلبي على جودة التعليم في تلك المناطق. وفي عام 2008 رصدت الحكومة الأسترالية 291 مليون دولار لهذا الغرض على أن تضمن الخطة إشراك السكان المحليين في التنفيذ والتطوير على الأرض.


كما وضعت الحكومة خطة عمل لتطوير البنية التحتية الخاصة بالتعليم في هذه المناطق، ويشمل ذلك تطوير 900 مدرسة لإحداث فارق ملحوظ في مستوى التعليم مع وضع خطة خاصة للتركيز على تعليم ما قبل المدرسة لما له من أثر كبير في إدماج الأطفال في بيئة المدرسة، وإحداث تطور في مستويات تحصيلهم. كما رصدت الحكومة في الخطة ذاتها 546 مليون دولار لإنشاء مراكز للعناية بالطفولة المبكرة، لتقدم الرعاية اللازمة للأم والطفل، فقد أشارت الدراسات إلى أن الرعاية الاجتماعية والصحية بالأسر تؤدي إلى زيادة التحاق أبناء هذه الأسر بالمدارس، وتزيد إمكانية إكمال تعليمهم.

أما على مستوى المناهج والمحتوى، فقد أدخلت الدولة تعديلات على المناهج تعنى بثقافة السكان الأصليين وتوضحها، وأصبح أدب السكان الأصليين يدرس في المناهج الأسترالية الوطنية لجميع الطلاب، كما أتاحت الإدارات التعليمية مواد وفيرة للمعلمين على الإنترنت، لشرح وتدريس ثقافة السكان المحليين ومساعدة المعلمين على فهم تلك الثقافة.

أما على صعيد التعليم العالي، فإن الحكومة أطلقت عدة مشاريع لزيادة أعداد الطلبة من السكان الأصليين الملتحقين بالجامعات، فبدأت بعمل إحصاءات وأبحاث لمعرفة أسباب قلة عدد انخراط السكان الأصليين في التعليم العالي والسلك الأكاديمي. وأشارت النتائج إلى أن التعثر المادي والشعور بالاغتراب، نتيجة صعوبة المتطلبات الأكاديمية بالنسبة لهم، مع عدم وجود الدعم الأكاديمي الكافي، هما من أكثر العوامل التي تؤثر على نسب تقدمهم في مرحلة التعليم الجامعي وما بعدها، وعليه فقد قامت الحكومة بتقديم برامج المنح لهؤلاء الطلبة، وأنشئت مراكز خاصة بهم في مختلف الجامعات الأسترالية لتقديم الدعم اللازم للطلبة، وخلق شبكة علاقات من الطلبة والأساتذة من السكان الأصليين، وتأكيد وجودهم في حرم الجامعات. إضافة إلى ذلك، أعطيت الأولوية للباحثين من السكان الأصليين من أجل زيادة نسبة تمثيلهم في هيئات التدريس والبحث الأكاديمي، حتى ينعكس هذا على كم الأبحاث العلمية التي تعنى بالسكان الأصليين.


وقد أثمرت هذه الجهود فارقاً ملحوظاً في نسب التحاق أبناء السكان الأصليين بالمدارس ومعدلات تحصيلهم، وساهمت في تقليل الفجوة بينهم وبين السكان البيض، وتشير الإحصاءات الرسمية لعام 2010 إلى زيادة معدلات التحاق الأطفال من السكان الأصليين في المناطق النائية بالتعليم ما قبل المدرسي، مما يمهد لالتحاقهم بالمدارس وارتفاع نسبة من يكملون تعليمهم المدرسي حتى السنة النهائية ليصل إلى 26 % في عام 2008، بعد أن كان 21 % في عام 2001، أما نسب المواظبة في المدرسة من قبل أبناء السكان الأصليين، فارتفعت من 32 % عام 1998 إلى 47 % عام 2010 وانخفضت الفجوة بين معدلات السكان الأصليين وغير الأصليين بهذا الصدد من 41 نسبة مئوية عام 1998 إلى 32 % عام 2010.

وهكذا فإن تجربة أستراليا في إرساء العدالة الاجتماعية من خلال منظومة التعليم تعتبر تجربة جديرة بالتفحص والدراسة، بكل ما تحمله من تحديات وسياسات وخطط لا سيما وأن المجتمع عانى من انشقاق حقيقي وعميق طوال قرنين من الزمان، إلا أن النجاحات النسبية التي حققتها الدولة من خلال التعليم تجعل من التجربة بارقة أمل للعديد من مجتمعاتنا العربية، التي ما زالت تعاني من الانقسامات والصراعات الداخلية.

المساهمون