أستاذ "برينستون" ووصية الإمام.. فقه علاقة واشنطن وإيران

04 ابريل 2015

إيرانيتان في طهران بمحاذاة جدار السفارة الأميركية المغلقة (16أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

لم تعد الغمغمات الصادرة من طهران قادرة على إخفاء حقيقة استماتة نخب السلطة هناك في اغتنام فرصة "تاريخية"، يمنحها وجود رئيس أميركي بمستوى "كبار الموظفين"، للتوصل إلى اتفاق نووي، يكرس وجود النظام، ويسمح بكسر الحصار، ويضفي شرعية على الدور الإقليمي الذي تسعى إيران إلى أدائه. بيد أنه، ولفهم حقيقة ما يدور في خلد صانع القرار الإيراني، على المرء أن يغض الطرف عن تصريحات صقور الحرس الثوري، وغيرهم من "عشاق" المزايدات الكلامية والتهديدات الفارغة ضد "قوى الاستكبار العالمي"، وأن يلتفت، بدلاً من ذلك، إلى ما يقوم به رجال المرشد في واشنطن، وقد وعوا أهمية العمل بأدوات التأثير السياسي التي يتيحها النظام الأميركي.

في ضيافة "الشيطان الأكبر"
في واشنطن، يدير مسؤول إيراني سابق حملة علاقات عامة، مجردة عن كل التحفظات والمواربات التي تطبع عادة السلوك الإيراني "المرتبك" عند الحديث عن تصحيح العلاقة مع الغرب، الأميركي تحديداً. إذ دأب الأستاذ الزائر في جامعة برينستون، السفير سيد حسن موسويان، والذي شغل سابقاً منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الأمن القومي الايراني، وعضو الوفد الإيراني في المفاوضات النووية بين عامي 2003-2005، وقادها حينها الرئيس حسن روحاني، عندما كان أميناً للمجلس، دأب، في الآونة الأخيرة، على إلقاء المحاضرات ونشر المقالات في وسائل إعلام أميركية وغربية، مبشراً بعصر جديد من التعاون وتبادل الخدمات بين طهران وواشنطن، في حال قررت إدارة الرئيس أوباما المضي في التوصل إلى اتفاق ينهي الخلاف حول الملف النووي. جديد ما كتبه الرجل جاء في موقع المونيتور وصحيفة الغارديان البريطانية، حيث أكد أن الاتفاق النووي سوف يفتح الباب أمام تعاون أميركي-إيراني في الحرب على تنظيم الدولة في العراق وسورية، وحذر أنه من دون مثل هذا التعاون لن تتمكن واشنطن من إلحاق الهزيمة بالتنظيم، لأن إيران، في ظل إحجام واشنطن عن نشر قوات برية في المنطقة، تعد القوة الإقليمية الوحيدة القادرة والراغبة في إرسال قواتها لمواجهة تنظيم الدولة. ويستشهد موسويان على فعالية هذا التعاون وواقعيته بالتأكيد أنه، وفيما كانت الولايات المتحدة تقصف مواقع تنظيم الدولة في غير مكان من العراق، كانت قوات الحرس الثوري الإيراني والمليشيات العراقية التابعة لها تقاتل التنظيم على الأرض في تكريت والقرمة والبغدادي، وغيرها من مناطق العراق، كل ما يحتاج إليه الأمر تنسيق مباشر للحصول على نتائج أفضل.

موسويان، الذي يُعامل في واشنطن وكأنه مازال في موقع المسؤولية، نظراً لقربه الشديد من دوائر صنع القرار في طهران، وتعد من ثم تصريحاته هناك رسائل موجهة، ليس من غير شخص المرشد نفسه، يؤكد على ضرورة أن يفهم الأميركيون مغزى صدور فتوى عن مرشد الثورة في موضوع أو قضية سياسية أو دينية، وهو يلح من ثم على أهمية أن تأخذ إدارة أوباما بمطلق الجدية الفتوى التي أصدرها علي خامنئي قبل أعوام، وحرَّم فيها مسألة تطوير سلاح نووي، ويحذر من أن التشكيك بكلام المرشد بهذا الخصوص يعد إهانة توجه له بغير علم، فالمرشد يعد نائباً عن الإمام الغائب، كما يقول موسويان، وتعد فتاواه قولاً فصلاً في سياسات إيران، وتوجهاتها الداخلية والخارجية، وهي لا تسقط بموته، ولا تتقادم برحيله، بل يبقى النظام ملتزماً بها، لأن للإمام حق تحديد المصلحة العامة، وله أن يقدمها على ما عداها، حتى لو تعارضت مع نص قرآني.

فتوى الخميني وفقه المصلحة
ويستند موسويان في تأكيده على وجود ميل إيراني متأصل نحو إهمال العوامل الأيدولوجية والدينية، في حال تعارضها مع مصلحة النظام، إلى الفتوى الشهيرة التي أطلقها مؤسس الجمهورية وقائد ثورتها، آية الله الخميني، الذي أرسل، قبل وفاته عام 1989 بأشهر، خطاباً إلى رئيس الجمهورية، وكان المرشد الحالي علي خامنئي، يوصيه فيه بأنه "إذا حدث تعارض بين مصلحة النظام ونص قرآني، فعلى الإمام ترجيح الأول على الثاني".

لم تكن الممارسة السياسية الإيرانية في العلاقة مع واشنطن، منذ انطلاقة الثورة، عملياً، أكثر من ترجمة لهذه العبارة. فقبل عودته "الظافرة" إلى طهران، استقبل الخميني في مقر إقامته في باريس وزير العدل الأميركي السابق، رمزي كلارك، مبعوثاً من الرئيس جيمي كارتر. وأبلغ الخميني استعداد واشنطن للاعتراف بنظام الثورة واستئناف شحنات الأسلحة الأميركية التي جرى التعاقد عليها زمن الشاه، بشرط الحفاظ على علاقات الصداقة مع أميركا، وهو ما كان. استؤنفت الشحنات، كما جرى رفع مستوى الاتصال بين الطرفين، في لقاء جمع مستشار كارتر لشؤون الأمن القومي، زبغينو بريجنسكي وأول رئيس حكومة إيراني في عهد الثورة، مهدي بازرغان، في العاصمة الجزائرية. لكن هذا التقارب تعثر بسبب صراع الأجنحة داخل النظام الجديد، والذي نتج عنه اقتحام السفارة الأميركية في طهران.

في كتابه "بقوة السيف.. أميركا وإسرائيل في الشرق الأوسط"، يتناول ستيفن غرين الاتفاق التي جرى التوصل إليه بين فريق المرشح للانتخابات الرئاسية الأميركية رونالد ريغان والحكومة الثورية في طهران. تضمن الاتفاق أن تؤخر إيران إطلاق سراح الرهائن الأميركيين إلى ما بعد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية، حتى لا يستفيد الرئيس كارتر من الزخم الذي قد ينتج عن نجاحه في إطلاقهم، وذلك مقابل وعود من ريغان بأنه سيستأنف، في حال فوزه، صادرات الأسلحة إلى طهران، وهو ما حصل عن طريق إسبانيا.

في ذروة الحرب مع العراق، كانت إيران بحاجة ماسة لقطع الغيار لسلاحها الأميركي. وأكثر من ثلاث سنوات، ظلت إيران تحصل على هذا السلاح من الولايات المتحدة عن طريق إسرائيل مقابل المساعدة في إطلاق سراح الرهائن الأميركيين في لبنان وتحويل ثمن الأسلحة إلى مقاتلي الكونترا الذين كانوا يحاربون الحكومة اليسارية في نيكاراغوا. ولم تتوقف شحنات الأسلحة الأميركية إلى طهران، إلا عندما اتسعت التسريبات لتتحول إلى ما أصبحت تعرف، لاحقاً، بفضيحة إيران غيت التي هزت إدارة ريغان عام 1986. وبتأثير تلك الفضيحة، انقطعت كل أشكال التواصل بين طهران وواشنطن حتى عام 1990، عندما أعلنت إيران وقوفها على الحياد في حرب تحرير الكويت، مع أنها لم تخف غبطتها لرؤية الأميركيين يدمرون فلول الجيش العراقي الذي أجبرها على "تجرع كأس السم" في أغسطس/آب 1988.
في عام 1993، تجددت الاتصالات الأميركية -الإيرانية، بسبب الحرب في البوسنة، حيث نقلت طائرات أميركية عتاداً ومتطوعين إيرانيين عبر تركيا، لمساعدة المسلمين البوسنيين في مواجهة التطهير العرقي الذي مارسه الصرب بحقهم. لكن ذلك توقف، أيضاً، مع توقيع اتفاق دايتون عام 1995 ثم وقوع انفجار الخبر عام 1996 والذي أدى إلى نكسة في الاتصالات المستجدة بين البلدين، بعد أن اتهمت واشنطن إيران بالوقوف وراءه.

الغزل إلى العلن
مع وصول محمد خاتمي إلى السلطة عام 1997، بدأت حركة غزل علنية بين واشنطن وطهران، استهلها خاتمي في أغسطس/آب عام 1998، عندما أدلى بحديث إلى محطة "سي إن إن"، أعرب فيها عن إعجابه وتقديره للشعب الأميركي. وردت إدارة كلينتون، على لسان وزير الخارجية مادلين أولبرايت، بما يشبه اعتذاراً "عن المعاناة التي تعرض لها الإيرانيون لأسباب قد يكون لسياسة الولايات المتحدة علاقة بها". في ذلك الوقت، بدا أن المياه ربما بدأت تعود فعلاً إلى مجاريها بين البلدين، لكن المقاومة الشديدة للمحافظين في طهران، وتردد كلينتون بسبب فضيحة مونيكا لوينسكي أفشلا هذه المحاولة.


استمرت الحال كذلك حتى وقعت أحداث سبتمبر/أيلول 2001. كانت إيران من أوائل الدول التي نددت بالهجمات وعرضت على واشنطن المساعدة في مكافحة الإرهاب. وعندما قرر الرئيس جورج بوش الابن غزو أفغانستان، قدمت إيران مساعدات لوجستية، منها السماح للطائرات الأميركية باستخدام أجوائها، وحتى نقل أسلحة إلى تحالف الشمال المعارض لنظام طالبان. وساهمت إيران في مؤتمر برلين حول أفغانستان في عام 2002، وهو المؤتمر الذي أرسى صيغة الحكم القائم حالياً في كابول. بالمثل، قررت إيران المساعدة في إطاحة نظام الرئيس صدام حسين عندما سمحت لعشرات الآلاف من مقاتلي فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ومقاتلي حزب الدعوة بدخول الأراضي العراقية ومساعدة قوات التحالف في إسقاط بغداد، كما لعبت طهران دوراً مهماً في منع أي مقاومة ضد الزحف الأميركي في المناطق التي كان لها نفوذ فيها.

في عام 2003 وبعد بضعة شهور من احتلال العراق، عرضت طهران على واشنطن صفقة شاملة لتسوية كل القضايا الإقليمية والثنائية العالقة بين البلدين. ونشرت تفاصيل العرض الإيراني في صحيفة نيويورك تايمز في أكتوبر/تشرين أول 2005. لكن إدارة بوش، المنتشية بنصرها السريع في العراق، رفضت العرض، لا بل كافأت طهران على "المساعدة القيمة" التي قدمتها في العراق وأفغانستان بضمها إلى محور الشر.
وجدت طهران التي ساءها رفض إدارة بوش تسوية شاملة معها أن السياسات الأميركية في المنطقة خدمتها بشكل كبير، فبفضل الجهد العسكري لواشنطن، تخلصت طهران من عدوين رئيسين على حدودها الشرقية والغربية في آن معاً. في الأثناء، كان المشروع الأميركي يتعثر في العراق وأفغانستان، ما أثر في حظوظ دعاة الانفتاح على واشنطن، وأسهم في صعود تيار أحمدي نجاد. لكن نجاد الذي دفع بالعداء مع واشنطن إلى حدوده القصوى ألحق اضراراً كبيرة بطهران، سواء فيما يتعلق بالملف النووي، أو بسياساتها الإقليمية، أو على صعيد علاقاتها الدولية. وهو ما وعته القيادة الإيرانية، عندما قررت المجيء بحسن روحاني وفريقه لإدارة الدفة، بطريقة تتطلب قدراً أقل من الإثارة والأيدولوجيا، وقدراً أكبر من البراغماتية. هذا السلوك الجديد تتم ترجمته في طريقة إدارة المفاوضات في الملف النووي، فيما يتولى تسويقه في واشنطن وبناء إجراءات الثقة بشأنه دبلوماسي محنك وأستاذ جامعي مطلع على آليات التأثير في النظام السياسي الأميركي، من جهة، ومتسلح، من جهة أخرى، بوصية الإمام حول فقه المصلحة.