مر أسبوع من التفاوض غير المباشر بين وفد المعارضة السورية ووفد النظام، في مدينة جنيف السويسرية، من دون تحقيق نتائج جوهرية، من شأنها إنعاش آمال السوريين بقرب التوصل إلى حل سياسي لقضيتهم مع نهايات السنة السادسة للثورة، إذ لا يزال النظام يسعى لتخريب العملية السياسية، معتمداً على انحياز الموفد الأممي، ستيفان دي ميستورا، الذي يحاول "تمييع" التفاوض، وأخذه بعيداً عن مسار بحث الانتقال السياسي. وأكد وفد المعارضة أنه لم يتم التوصل الى أجندة تفاوض واضحة، بسبب محاولات النظام التهرب من الاستحقاق الأبرز، وهو الانتقال السياسي، ما بدد أسبوعاً من التفاوض. ومن الواضح أن النظام لا يزال يراهن على الدور الروسي في تكبيل الإرادة الدولية، والذي تجلى الثلاثاء في مجلس الأمن الدولي، عندما أجهض حق النقض (الفيتو) الروسي السابع، محاولة جديدة من المجتمع الدولي لمحاسبة نظام بشار الأسد.
ولم ترفع المعارضة السورية سقف الآمال بتحقيق اختراق مهم في الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، لإدراكها أن النظام وحلفاءه غير جادين في التوصل إلى تسوية "تاريخية"، وأنهم سيعملون على حرْف المسار التفاوضي للقفز فوق قرارات دولية واضحة، تدعو إلى انتقال سياسي يستبعد رئيس النظام السوري، بشار الأسد عن السلطة. ومنذ اليوم الأول للمفاوضات، حاول وفد النظام تأجيل البحث في قضية الانتقال السياسي، الذي أصر عليه وفد المعارضة. وشهدت جولة التفاوض الحالية، خروج دي ميستورا بتصور "السلال الثلاث" (الحكومة والدستور والانتخابات)، وبحثه بالتزامن عبر لجان من الوفدين. وقد وافق وفد المعارضة على مناقشة قضايا الانتقال السياسي والانتخابات والدستور، على أن يبدأ التفاوض أولاً على القضية الجوهرية، وهي الانتقال السياسي، وإنجازه أولاً وفق القرارات الدولية ذات الصلة، في حين طالب وفد النظام بإدراج "سلة رابعة"، وهي موضوع محاربة الإرهاب، وهو ما يناقض الهدف السياسي من مفاوضات جنيف، إذ أصر وفد المعارضة على أن موضوع الإرهاب ليس مدرجاً بالأساس على جدول التفاوض. وجاءت سيطرة قوات المعارضة السورية على مدينة الباب، بالتزامن مع انعقاد الجولة الرابعة من المفاوضات، كتأكيد عملي على أن المعارضة بصدد محاربة الإرهاب، وأن هذا الأمر لا يقف حائلاً دون الانخراط في العملية السياسية، وأن النظام يتلطّى وراء هذه الذريعة، لتجنب مواجهته قرارات دولية واضحة الدلالات والمآلات.
وأكد رئيس وفد المعارضة المفاوض، نصر الحريري، خلال مؤتمر صحافي أمس الاربعاء، أن تحقيق الانتقال هو المدخل الحقيقي لمحاربة الإرهاب في سورية، مشيراً إلى أنه لم يتم التوصل إلى أجندة واضحة لعملية التفاوض بسبب محاولات النظام تخريب هذه العملية برمتها. وقال "سمعنا من دي مستورا أن هناك وبسبب الضغط الروسي، وهذه إشارة قد تكون كذلك مشجعة من الناحية المبدئية، قبولاً لتناول القضايا المطروحة في القرار 2254، وطبعاً يهمنا منها تحقيق الانتقال السياسي، لأنه السبيل الوحيد لتحقيق القضايا الأخرى في هذا القرار". وأضاف "ما قاله دي ميستورا إن هناك قبولاً من وفد النظام لبعض النقاط. حتى هذه اللحظة لم يتم الوصول إلى أجندة واحدة نهائياً. ما زلنا في إطار الملاحظات والرد على الملاحظات". من جهته، أشار النقيب سعيد نقرش، وهو أحد مستشاري وفد المعارضة، لـ"العربي الجديد"، إلى أنه وبعد أسبوع من التفاوض "لم يتحقق شيء يمكن البناء عليه".
وتمسك وفد المعارضة، خلال أسبوع التفاوض، ببيان "جنيف 1" الذي صدر في 2012، ودعا إلى "إقامة هيئة حكم انتقالية، باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية"، مشيراً إلى أن هيئة الحكم الانتقالية تمارس كامل السلطات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة. كما دعا بيان "جنيف 1" إلى إطلاق سراح المعتقلين واحترام حق التظاهر السلمي، بالإضافة إلى بنود أخرى، من شأنها التحوّل بسورية إلى أن "تكون ديمقراطية وتعددية بحق"، مع الحفاظ على مؤسسات الدولة القائمة. واعتمد وفد المعارضة، كمرجعية في هذه المفاوضات، على القرار الدولي 2118، الصادر في 2013، والذي جاء داعماً لبيان "جنيف1"، إذ أكد مجلس الأمن أنه "يؤيد تأييداً تاماً بيان جنيف المؤرخ في 30 حزيران 2012، الذي يحدد عدداً من الخطوات الرئيسية، بدءاً بإنشاء هيئة حكم انتقالية تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، وتُشكل على أساس التوافق"، وفق نص القرار.
من جانبه، يرى الدبلوماسي السوري المعارض، بسام العمادي، أن جدول أعمال الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف كان بمثابة "فخاخ"، تؤكد أن دي ميستورا، ليس وسيطاً نزيهاً، بل هو "منحاز" للنظام. وأشار العمادي، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن دي ميستورا "اتبع أسلوباً التفافياً، إذ أطلق على جدول الأعمال الفعلي اسم بيان الإجراءات، وذلك كي لا يتم الاعتراض عليه. وهو ما يتعارض تماماً مع جدول الأعمال الذي يحدده قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي أسست وبنيت عليه مفاوضات جنيف". وأوضح العمادي، الذي كان سفير سورية في السويد، أن "الفخ الأكبر" في جدول الأعمال "هو تقسيم التفاوض إلى ثلاثة مسارات متوازية في الزمن ومتساوية في الأهمية"، مشيراً إلى أن "تسمية (سلات)، مصطنعة للتغطية على حقيقة التسمية، وهي مسارات تفاوضية"، معتبراً أن هذا التصنيف "يخرج عن جدول أعمال القرار 2254، الذي يرد فيه أن التفاوض هو على إقامة حكم انتقالي". وأشار العمادي إلى أن هذا التقسيم المتعمد من قبل الموفد الأممي "يشتت التفاوض ويميّعه"، موضحاً بأن دي ميستورا يريد ربط المسارات مع بعضها "وبذلك يصبح الاتفاق شبه مستحيل، لأن النظام سيستغل ذلك ليتقدم على مسار ويجمد آخر، للوصول بالمفاوضات إلى طريق مسدود". ويرى أن جدول الأعمال الذي طرحه دي ميستورا بتجزئة التفاوض إلى ثلاثة مسارات مخالفٌ لقرارات دولية و"يكشف انحياز (دي ميستورا) للنظام، ومخالفته لوظيفته في تيسير عملية التفاوض، وليس التحكم بها وبأطرافها".
وحاول المبعوث الأممي، خلال أسبوع من التفاوض، تشتيت تمثيل المعارضة السورية من خلال دعوة منصتي موسكو والقاهرة، اللتين تتماهيان إلى حد بعيد مع الرؤية الروسية، وتدفعان باتجاه ترحيل مناقشة مصير الأسد، والتحايل على مضامين القرارات الدولية من طرح فكرة "حكومة مشتركة" مع النظام تكون بمثابة هيئة حكم انتقالي. لكن المنصتين لم تستطيعان التأثير على كون وفد الهيئة العليا للمفاوضات هو الجهة ذات المصداقية القانونية والشعبية في عملية التفاوض، وأن موقف الهيئة هو الفيصل في مدخلات ومخرجات هذه العملية. وتتحدث المعارضة السورية عن غياب "شريك حقيقي" في الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، مؤكدة أن "محاولات النظام لتغيير سير العملية السياسية لن تجدي"، مشيرة إلى غياب إرادة روسية حقيقية تسهّل التقدم في المفاوضات، خصوصاً لجهة جوهر هذه المفاوضات، وهو الانتقال السياسي. وحاول النظام وحلفاؤه الضغط بكل الوسائل على وفد المعارضة للدفع به نحو تعليق مشاركته في المفاوضات، ليظهر كأنه هو المعطل للمسار التفاوضي، بينما أظهر وفد المعارضة السورية ما يمكن تسميته بـ"الصبر السياسي"، لتفويت الفرصة على النظام الذي يريد التهرب من استحقاق التفاوض الأساسية. وأكد نصر الحريري أن النظام اتبع "تكتيكات" مخربة للعملية التفاوضية، من خلال ارتكاب المجازر، متحدثاً عن مئات القتلى والمصابين من المدنيين بالقصف الجوي والمدفعي من قبل قوات النظام، والمليشيات الطائفية.
ولا تزال موسكو تدفع باتجاه خلق مسار مواز للمفاوضات السورية، من خلال إبقاء الباب مفتوحاً أمام مفاوضات أستانة المتعلقة بتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، في محاولة واضحة للتأثير على مفاوضات جنيف، وفرض رؤيتها على حاضر ومستقبل سورية من خلال مسار أستانة لا جنيف. وذكرت مصادر إعلامية إنه من المقرر أن تُعقد جولة جديدة من مباحثات أستانة في 14 مارس/آذار الحالي، لمتابعة التداول حول آليات تطبيق اتفاق وقف النار، الذي يضرب به النظام عرض الحائط بشكل يومي، في ظل موقف روسي مائع على الخروقات المستمرة لقوات النظام والمليشيات الإيرانية. وتحاول روسيا أيضاً استخدام مفاوضات أستانة كغطاء يتيح لقوات النظام ومليشيات إيرانية قضم المزيد من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، بهدف إضعاف موقف الأخيرة التفاوضي، سواء في أستانة أو جنيف، مستغلة غياب إرادة التحرك الجدّي من قبل الإدارة الأميركية، التي لا تزال تدرس ملفات تخص القضية السورية، ويبدو أن ملف محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) له النصيب الأكبر من اهتمامها.