الرواية متشابهة من ليبيا إلى سورية على الرغم من الفارق في مضمون كل أزمة وحجمها. العنوان المشترك هو انعدام أفق الحل السياسي مع أبواب مشرعة للتدخّلات الخارجية والمقايضات الإقليمية، في وقت تتنافس فيه موسكو وأنقرة على ملء فراغ التردد الأميركي بالتورط. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وسّع مروحة تدخلاته إلى ليبيا، وبالتالي فتح بازار التسويات واستدراج العروض في شرق المتوسط، وساهم في تعقيد استراتيجية إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
على الرغم من الكيمياء بين ترامب وأردوغان، هناك مصالح أميركية-تركية تزداد تناقضاتها يومياً، في مواقف تعكسها المؤسسة الحاكمة في واشنطن. وقد أدت اللامبالاة الأميركية وتخبّط الموقف الأوروبي إلى فراغ مزمن ومتراكم سمح في نهاية المطاف لروسيا وتركيا بالدخول على خطّ المنافسة الاستراتيجية في ليبيا.
بعد تدخّل "حلف شمال الأطلسي" في ليبيا عام 2011، انسحبت القوى الغربية من إدارة المرحلة الانتقالية، وكانت النتيجة انهيار الأوضاع وبروز أزمة ثقة أميركية-أوروبية لا تزال مستمرة إلى الآن في هذا البلد. وشكّل مقتل السفير الأميركي في ليبيا كريس ستيفنز، في سبتمبر/أيلول 2012، صدمة للسياسة الأميركية، وزاد من رغبتها بعدم التدخّل في المنطقة. إذ اكتفت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما حينها، بالتركيز في ليبيا على هزيمة تنظيم "داعش"، والتي أعلنت عنها في ديسمبر/كانون الأول عام 2016، قبل شهر من استلام ترامب الحكم رسمياً.
فشل المبادرات الأوروبية الأخيرة، لا سيما الفرنسية، في إيجاد حلول سلمية، عمّق الأزمة الليبية وعزّز احتمالات المواجهة العسكرية، ما فتح الباب لتوسع التدخلات الخارجية. وبعد انقطاع عن ليبيا على مدى عامين، عادت إدارة ترامب إلى الاهتمام بهذه الأزمة منذ شهر إبريل/نيسان الماضي، وأطلقت استراتيجيتها حيال ليبيا في شهر سبتمبر/أيلول الماضي. وتقف المقاربة الأميركية حائرة بين حكومة الوفاق الضعيفة والمعترف بها دولياً برئاسة فائز السراج، وبين قائد قوات شرق ليبيا اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يحظى بدعم مصر والإمارات وروسيا.
الأهداف الرئيسية الثلاثة لهذه الاستراتيجية الأميركية هي منع إعادة بروز "داعش" في ليبيا، وردع أي توسّع روسي نحو شمال أفريقيا، وإعادة ضخ النفط الليبي بوتيرة أكبر لإيجاد توازن مع أي تداعيات محتملة للعقوبات الأميركية على النفط الإيراني عشية الانتخابات الأميركية. ترجمة هذه الأهداف خلال الأشهر الماضية كانت عبر تكثيف القصف الجوي الأميركي ضدّ تنظيم "داعش" في ليبيا، وفتح قنوات حوار مع طرفي النزاع الليبي للتوسط بينهما سعياً لتسوية سلمية. المحرك الرئيسي للسياسة الأميركية في ليبيا هي نائبة مستشار الأمن القومي فيكتوريا كوتس، وهناك بطبيعة الحال دور رئيسي للسفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند ووزارتي الدفاع والطاقة. لكن تخللت الطريق إلى هذه الاستراتيجية فترات صعود وهبوط قد تكون مؤشراً على عدم وجود التزام أميركي جدي ومستدام في ليبيا.
عند إطلاق حفتر حملته العسكرية للسيطرة على طرابلس في شهر إبريل الماضي، تزامناً مع زيادة ضغوط واشنطن الاقتصادية على إيران، عارض وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو هذه العملية في شهادة أمام الكونغرس، وحثّ على وقف إطلاق النار في ليبيا، قبل أن يناقضه ترامب بعد أسبوع في اتصال هاتفي مع حفتر أشاد فيه بدوره في محاربة الإرهاب وتأمين مصادر النفط الليبي، كما جاء في بيان للبيت الأبيض حينها. اتضح وقتها مرة أخرى وجود تباين بين ترامب ووزارتي الخارجية والدفاع، إذ تفضّل هذه المؤسسات أخذ مسافة من أطراف النزاع الليبي، فيما موقف ترامب كان أقرب إلى موسكو والقاهرة وأبو ظبي. نظرة الرئيس الأميركي حينها كانت أنه في حال حسم حفتر المعركة العسكرية واستلم منابع النفط، سيفرض الاستقرار في ليبيا ويستعيد وتيرة تصدير النفط الليبي. لكن فشل جهود اللواء المتقاعد في الحسم العسكري فرض على ترامب إعادة حساباته، لا سيما أنّ حفتر فقد داعماً رئيسياً له بعد خروج مستشار الأمن القومي الأسبق جون بولتون من البيت الأبيض في شهر إبريل الماضي. فخروج بولتون ساهم تدريجياً في تمكّن بومبيو من بلورة سياسة أميركية جديدة في ليبيا.
لم تحقّق الاستراتيجية الأميركية في ليبيا إلى الآن اختراقات كبيرة، لا سيما في ظلّ دخول كل من موسكو وأنقرة على خطّ الأزمة، ما ساهم في تعقيد مهمة واشنطن. لقاء مسؤولين أميركيين مع حفتر نهاية الشهر الماضي لم ينجح في حثه على وقف العملية العسكرية نحو طرابلس أو قطْع تعاونه العسكري مع موسكو. كما أقرّ البنتاغون في وقت سابق من الشهر الحالي بسقوط طائرة أميركية من دون طيار فوق ليبيا من قبل منظومة صواريخ دفاعية روسية تديرها مجموعة المرتزقة الروس "فاغنر" المقربة من الكرملين والتي تدعم قوات حفتر، علماً أنّ وزارة الخارجية الأميركية تضغط على الأوروبيين لفرض عقوبات على هذه المجموعة.
وقامت أنقرة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بتوقيع مذكرتين مع حكومة السراج، الأولى لترسيم الحدود البحرية، ولها تداعيات على غاز شرق المتوسط، وقد اعتبرتها اليونان تعدياً على مياهها الإقليمية، والثانية متعلقة بتعزير التنسيق العسكري، بما في ذلك احتمال إرسال قوات تركية إلى ليبيا. ويبدو أنّ حفتر يربط بين دخول طرابلس وإلغاء خريطة الحدود البحرية، فيما تحاول أنقرة الضغط من أجل وقف حملة حفتر العسكرية نحو العاصمة، والتي لم تحقق بعد تقدماً ملموساً على الأرض لحسم المعركة عسكرياً قبل أي تفاوض محتمل.
وفي ظلّ غياب أي رؤية حاسمة في السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة، سعى الكونغرس مرة أخرى للضغط على ترامب لتعديل سياساته الخارجية وإدخال واشنطن على خطّ التنافس الاستراتيجي في شرق المتوسط لإيجاد توازن مع روسيا وتركيا. أحد دوافع التحرّك الأميركي حيال ليبيا هو إسرائيل التي يزداد قلقها من التوسّع التركي في مواجهة تحالف الغاز بينها وبين مصر واليونان وقبرص. أولاً، أقرّ الكونغرس قانون "تحقيق الاستقرار في ليبيا" الذي دعا إلى فرض عقوبات على "الأفراد الذين يؤججون العنف" فيها، كما طلب من الإدارة الأميركية إبلاغ الكونغرس بشأن أي تورط لحكومة أجنبية في ليبيا وصياغة "استراتيجية لمواجهة النفوذ الروسي"، في وقت أبدت فيه إدارة ترامب استعداداً لفتح حوار مع موسكو لإنهاء النزاع في هذا البلد.
ثانياً، تضمّنت الميزانية الدفاعية التي أقرها الكونغرس الأسبوع الماضي، قانوناً لتعزيز الروابط العسكرية مع اليونان، ورفع حظر بيع الأسلحة عن قبرص الذي فرضته واشنطن عليها عام 1987. وحتى وإن أعلنت قبرص أنها ليست في وارد استيراد الأسلحة الأميركية في المدى المنظور، تبدو رغبة المؤسسة الحاكمة في واشنطن واضحة لناحية تعزيز شراكة الأمن والطاقة مع إسرائيل واليونان وقبرص ومصر في مواجهة التوسّعين الروسي والتركي. وتشمل هذه الاستراتيجية الأميركية تعزيز التطبيع العربي-الإسرائيلي وتقليص الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي. هذه الخطوة تعكس المزاج العام في الكونغرس بين الجمهوريين والديمقراطيين حيال أنقرة، إذ يتضمّن قانون "شراكة الطاقة والأمن في شرق المتوسط" نصاً يمنع تركيا من إعادة الانضمام إلى برنامج تصنيع طائرات "أف 35" الأميركية طالما أبقت على منظومة الصواريخ الدفاعية الروسية "إس 400" التي لا تزال لديها وقد تشغّلها العام المقبل. كما يطلب الكونغرس من وكالات الأمم المتحدة المعنية تسجيل الانتهاكات البحرية والجوية التركية لكل من اليونان وقبرص.
هذا التدويل المستجد للأزمة الليبية أعاد إحياء المبادرات الدبلوماسية عشية قمة برلين حول هذا البلد بداية العام المقبل، لمحاولة إيجاد اختراق في الأزمة عبر تبني خطة المبعوث الأممي لدى ليبيا غسان سلامة، والتي تقضي بإنشاء مجلسين، عسكري ووطني، يمثلان طرفي النزاع. لكن لا يبدو أنّ هناك أي بديل جدي عن خطة السلام الأميركية. فالدبلوماسية الروسية المحدودة بين القاهرة وأنقرة تعترضها ملامح توتر بين روسيا وتركيا نتيجة تباعد المصالح بينهما في سورية وليبيا خلال الأسابيع الماضية. كما فقدت موسكو قدرتها على التوسط بين السراج وحفتر بعدما أصبحت طرفاً في النزاع الليبي.
عدم تورط أميركا في الحرب الليبية يعطيها هامشاً أوسع للتوسط بين أطراف النزاع إذا تمكنت من استيعاب ضغوط موسكو وأنقرة، لكن الهاجس في البيت الأبيض أن يؤدي هذا الدور الأميركي المستجدّ إلى انخراط أوسع في هذه الحرب، وهذا أمر مستبعد في حسابات واشنطن.
لكن الخطة الأميركية تحتاج إلى انخراط أكبر من إدارة ترامب، لا سيما فيما يتعلّق بتقويض دور المليشيات وتشكيل مجلس عسكري يثق فيه طرفا النزاع في شرق وغرب ليبيا. كما تحتاج إلى تحاور أميركي-روسي وإلى خطة أميركية طويلة المدى أبعد من إدارة النزاع على المدى القصير. جزء كبير من تطبيق الاستراتيجية الأميركية سيعتمد على نظرة واشنطن إلى حفتر، لا سيما أنه مع قوات حليفة له يسيطر على مساحات واسعة من ليبيا، كما يعتمد على موقف ترامب النهائي حول السياسة الأميركية في ليبيا، خصوصاً أنه منشغل حالياً بإجراءات العزل في الكونغرس وانطلاق الموسم الرئاسي الأميركي.