أساطير الإسلاميين في مصر... خداع الذات

12 نوفمبر 2016
حسن البنا (مواقع التواصل)
+ الخط -

في 28 أغسطس/آب الماضي كتب الدكتور أحمد مطر، الناشط على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) والذي يتابعة قرابة التسعين ألف حساب، قائلا "في مثل هذا اليوم من 50 عاما، فوجئ المهندس التركي نجم الدين أربكان باحتفالات في ألمانيا، سأل عن سببها، فأجابوه تم اليوم إعدام إرهابي في مصر اسمه سيد قطب، فسأل عن كتبه وأحضرها جميعا وقرأها، فاقتنع بالفكر وتبني الفكرة، وكانت بداية ولادة الحركة الإسلامية في تركيا، وأصبح تلاميذه رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان والحزب الحاكم".

وفقا لتعريفه بنفسه فإن الدكتور مطر يعمل ‏رئيسا للمركز العربي للبحوث السياسية والاقتصادية، غير أن أهميته الكبرى تأتي من كونه أحد أهم من يستشهد بهم مؤيدو جماعة الإخوان الناشطين على فيسبوك، خاصة من الناحية الاقتصادية.

وتعبر حكاية الدكتور مطر والتي نشرها في ذكرى إعدام سيد قطب التي حلت أواخر أغسطس/آب الماضي، عن واحدة من أخطر أزمات الإسلاميين المصريين، المتمثلة في صناعة حكايات وقصص وأساطير ليس لها وجود عن رموز إسلامية وعن الشخصيات التي يعتبرونها قدوة لهم، إذ إن ذات القصة تتكرر بالسيناريو نفسه في أدبيات الإسلاميين، لكن عن شخصية أخرى، وهي حسن البنا نفسه، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، إذ تقول الحكاية أو الأسطورة أن "سيد قطب، كان في الولايات المتحدة الأميركية، فوجد أجراس الكنائس تدق، ووجد الأطباء والممرضين في المستشفى التي كان فيها يحتفلون، وعندما سألهم عن السبب، قالوا له إن حسن البنا قد قتل، ومن يومها قرر الرجل الانضمام لجماعة الإخوان"، وهو ما يبدو كأنه مصدر واحد للقصتين، إذ ذكرها أحمد مطر نفسه في أحد التعليقات على المنشور الأصلي الخاص بقصة سيد قطب. كما ذكرها الشيخ "محمد الصغير" في لقاء على قناة "رابعة" عام 2014، كما أنها مذكورة في عشرات الأدبيات الأخرى، فقد أصدرت الجماعة ملفاً في ذكرى اغتيال حسن البنا عام 2015 قالت فيه إن اغتيال البنا كان السبب الذي وجَّه سيد قطب نفسيًّا وفكريًّا إلى الإخوان المسلمين، وأضافت أن قطب "كان آنذاك في الولايات المتحدة مبعوثًا من وزارة المعارف المصرية، ورأى قطب مظاهر الفرح والابتهاج في المحافل، وعلى صفحات الصحف لمقتل حسن البنا عدو الغرب كما وصفوه، واقتنع بفكر الجماعة، وانضم إليها بعد عودته من أميركا ليكون علمًا من أكبر أعلامها".

وفقا لما وثقه معد المادة، فإن القصتين تفتقدان إلى الحد الأدنى للمصداقية، نظراً لأن أربكان لم يكن في ألمانيا أصلا في ذلك الوقت، ذلك أنه أنهى دراسته هناك وعاد إلى تركيا منذ عام 1955، كما أن ميوله الإسلامية كانت مبكرة عن ذلك التاريخ بسنوات ولم تبدأ مع ذلك الحادث المزعوم، بالإضافة إلى أن تركيا كانت تشهد حركة إسلامية موجودة بالفعل بدأت منذ سقوط الخلافة، وهي التي تأثر بها أربكان وأنشأ أول أحزابه السياسية عام 1970 تحالفا مع أبرز كياناتها، وهي الحركة النورسية التي أسسها الشيخ سعيد الزمان النورسي.

وفي السياق ذاته، فإن سيد قطب، وقبله حسن البنا، لم يكونا معروفين بذلك القدر، فلم تكن كتبهما قد ترجمت إلى أي من اللغات الأجنبية، ولم يحظ سيد قطب بالاهتمام إلا بعد سنوات عديدة من إعدامه، وبالتالي من المستبعد تماما أن الأميركيين يعرفون الرجل على المستوى الشعبي، فضلا عن أنه لم تكن هناك من وسائل اتصال حديثة في ذلك العصر، إذ لم تكن هناك شبكة إنترنت ولا مواقع تواصل ولا فضائيات، وهو ما لم يساعد بالتأكيد في معرفة أي شيء عن الرجل. ثم لماذا يحتفل الألمان والأميركيون بإعدام معارض مصري في سجون عبد الناصر؟ لماذا تعطي تلك الأساطير أهمية أكثر من اللازم لرموز الإسلاميين، وكأن العالم الغربي يخطط لمؤامرة كونية ضدهم؟

بنظرة مدققة إلى هاتين الروايتين، يتضح أنهما شبيهتان للغاية بالرواية التاريخية التي تتحدث عن فرحة أوروبا بموت السلطان محمد الفاتح، إذ دقت أجراس الكنائس لمدة 3 أيام ابتهاجاً بوفاته، لكن هذا الحدث قد يكون مفهوماً ومبرراً، لأن الفاتح كان زعيماً لدولة كبيرة وقائداً لجيوش جرارة فتحت القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية وهددت أوروبا في عقر دارها على مدار سنوات، وبالتالي نستطيع أن نصدق مثل تلك الرواية، أما شخصيتان مثل حسن البنا وسيد قطب، فكانا مع كامل الاحترام لهما، مجرد قياديين لجماعة معارضة في دولة من دول العالم الثالث، كانت محتلة لمدة 74 عاماً من بريطانيا، ولا يوجد أي سبب للاهتمام بهما أو الخوف منهما أو حتى معرفتهما من قبل الشعبين الألماني والأميركي.

يعلق على هذه الظاهرة أنس القصاص الباحث والمحاضر في العلاقات الدولية، قائلا إن الإشكالية الكبرى في مثل هذه الأساطير أنها "تضخم الذات وتجعلها محور تفكير وتخطيط العدو على نحو جنوني مجافٍ لأبسط أحكام الواقع أو المنطق؛ إذ ينفي مروج هذه الأفكار وجود أية مشكلة أو عقبة أو تفكير لدى الآخر إلا في الآخر أي الإسلاميين (على ما في سكان المنطقة من ضعف وهوان) وفي كيفية التخلص منهم"، ولفت إلى أن الأساطير المؤسسة للحركات الإسلامية تتشابه إلى حد بعيد مع مثيلاتها المؤسسة للحركات القومية والعلمانية، قائلا في منشور على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) "بين أسطورة الزعيم الخالد وبطل الحرب والسلام والرئيس المغدور وشهيد المؤامرة الكونية رابط كبير".

الأخطر أن هذه القصص لم يكن مصدرها جماهير الإسلاميين العاديين الذين من الممكن أن يقعوا في فخ تلك الدعاية الساذجة، بل تأتي من قيادات يفترض بهم الدقة والعمق واتخاذ القرارات بناء على معلومات صحيحة وواضحة ومن مصادر موثوقة، وفي هذه الحالة فإن كاتب القصة أحمد مطر على صفحته باعتباره رئيس المركز العربي للبحوث السياسية والاقتصادية، أي أنه يعتبر من مفكري التيار الإسلامي وجماعة الإخوان، وهو ما يطرح سؤالا حول مدى قدرة الجماهير العادية على التفكير المنطقي إذا كان مستوى القيادة يروج لقصص وأساطير يسهل التأكد من كونها وهماً، خاصة أن مطر كانت له كتابات مماثلة قبل الانقلاب كان يؤكد فيها بناء على "معلومات" مزعومة أنه لن يحدث انقلاب، وأن المشكلات في طريقها إلى الحل، واتضح أن كل تلك التحليلات و"المعلومات" كانت سراباً.


أساطير لتشويه الخصوم

في مقابل اعتداد الإسلاميين المبالغ فيه برموزهم، نجد شيطنة خصومهم، وعلى رأسهم مثلا مصطفى كمال أتاتورك، وجمال عبد الناصر، والذين تم توجيه كافة الاتهامات إليهما على شكل أساطير دارت حول العمالة والخيانة والإلحاد واتهامات بالانحرافات الأخلاقية وغيرها.

في هذا الإطار توجد تهمة متكررة يتم إلصاقها دائما بمثل هؤلاء الخصوم، وهي أن أصولهم يهودية، إذ تتهم كتب إسلامية عديدة أتاتورك بالانتماء ليهود "الدونمة" (طائفة من اليهود من أتباع سباتاي زيفي الذي ادعى أنه المسيح، لكنه أسلم بعد أن تم القبض عليه في عهد السلطان محمد الرابع)، وأنه لهذا السبب أسقط الخلافة الإسلامية، وهو ما نجده على سبيل المثال في كتاب الدكتور علي الصلابي، عن تاريخ الدولة العثمانية.

كذلك فإن جمال عبد الناصر، لم تخل انتقادات الإسلاميين من اتهامه بالانتماء لليهودية، كونه نشأ في حارة اليهود بالجمالية. وقد ورد هذا الاتهام على سبيل المثال في كتاب "ثورة يوليو الأمريكية" للكاتب الراحل جلال كشك، الذي وإن لمح إلى هذا الأمر، إلا أنه اعترف بأنه لا يملك دليلا عليه، وبالتالي اكتفى باتهام عبد الناصر بالعمالة للمخابرات الأميركية، لكن التهمة تورد صريحة في أدبيات أخرى، مثل موقع "نافذة مصر" التابع للإخوان، والذي نشر موضوعا مجهولا يتهم عبد الناصر بأنه من أصل يهودي، لكن متن الموضوع يتحدث عن تأثر عبد الناصر بسيدة يهودية كانت ترعاه بعد وفاة والدته، لكن الموضوع المجهول ادعى أنها "قريبته" وبالتالي تصبح والدته يهودية كذلك، وعلى هذا الدرب تسير الكثير من الروايات المنتشرة بين أدبيات الإسلاميين، ومنها فيديو لصحافي يحظى بمتابعة جمهور من الإسلاميين يزعم نفس الأمر مدعيا أن الأصل اليهودي يجمع بين عبد الناصر والسيسي. كما أن أشهر تلك المزاعم قصة أخرى عن غرق جثة عبد الناصر بعد أن انفجرت ماسورة "مجاري" داخل القبر، أدت إلى انبعاث رائحة كريهة منه، وهي حكايات ما زالت تتردد حتى الآن على لسان عدد من ممن يقدمون أنفسهم كمعارضين للانقلاب، مثل المذيعة آيات عرابي والدكتور محمد الجوادي وغيرهما.


الأساطير بين الماضي والحاضر

أدى هذا التراث من الأساطير الوهمية إلى شائعات مماثلة بعد الانقلاب العسكري في مصر، من قبيل أن السيسي والدته يهودية، وأنه قتل في أكتوبر/تشرين الأول 2013 وأن الموجود حالياً هو شبيهه، وأن قائد الجيش الثاني آنذاك أحمد وصفي منحاز للشرعية، وأن السيسي هو الناجي الوحيد من حادث تحطم طائرة مصر للطيران عام 1999، والتصريحات والمقالات المكذوبة المنسوبة إلى شخصيات عالمية مثل روبرت فيسك ونعوم تشومسكي وغيرهما، إذ إن ماكينة صناعة الأساطير ما زالت تعمل بقوة وكثافة، والمحنة الحالية التي تعيشها جماعة الإخوان والتيارات الإسلامية في مصر شبيهة بتلك التي عاشتها في عهد عبد الناصر.


عصر جديد

سيطرت القصص والحكايات المفبركة على أجيال الإسلاميين الأوائل طويلا، وتم التعامل معها على أنها حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش، لكن الجديد هذه المرة هي الردود العنيفة والقاسية التي جاءت من عشرات المعلقين على حكاية سيد قطب وحسن البنا، إذ فندت تلك الردود وأثبتت كذب هذه الروايات وتهافتها، وهو أمر ساهم الإعلام الجديد في صنعه، إذ لم يكن متاحا أن يكون هناك تعليقات وردود أفعال لحظية على تلك القصص، لكن التعليقات كشفت عن وعي شبابي جديد لدى الأجيال الجديدة من المنتمين إلى الحركة الإسلامية، لا يوجد لدى متصدري المشهد من هذه الحركات.

دلالات