كثر هم الأزواج السوريّون الذين فرّقتهم الحدود والبحار. رويدة وأحمد وصبا ثلاثة مهاجرين سوريّين خبروا الفراق والوداع، يروون قصصهم.
يعيش آلاف الأزواج السوريين اليوم مفترقين عن بعضهم بعضاً، وينتظرون حصولهم على حقّ لمّ الشمل في إحدى الدول الأوروبية، التي سبق وحصل أحد الطرفَين على حق اللجوء إليها. قبل سنتَين تقريباً، كان اللاجئون بمعظمهم ينتهون من إجراءات لمّ شمل زوجاتهم وأطفالهم الذين هم دون الثامنة عشرة، خلال مدّة تتراوح ما بين ستة وتسعة أشهر. لكن مع تزايد أعداد المهاجرين طالبي اللجوء الوافدين إلى أوروبا، باتت إجراءات لمّ الشمل أكثر تعقيداً وتتطلب وقتاً أطول.
يصف سوريون كثر هذه الإجراءات بالمعقدة، ويعزو بعضهم تشديد شروط لمّ الشمل إلى عدم رغبة الدول الأوروبية بمضاعفة أعداد اللاجئين على أراضيها في الفترة الحالية. ويدفع ثمن هذا التشديد آلاف الأزواج السوريين وأطفالهم الذين اختاروا السفر نظامياً، بدلاً من المخاطرة بحياتهم جميعاً في قوارب الموت.
عادة، عندما يقصد المهاجر السوري أوروبا من دون عائلته، غالباً ما يظنّ أنّه يفترق عن زوجته وأطفاله لسنة واحدة. لكنّ مدّة الفراق قد تمتدّ في ظروف معيّنة، وقد تصل إلى سنوات في حال ظهور عراقيل. خلالها، قد تمرّ العلاقة بين الزوجَين بامتحان صعب.
رويدة: لحقتُ به بحراً
"لم تكن قصة حبّنا عادية، لكنّ انتظار لمّ الشمل كاد يقضي على كلّ شيء". تدهورت علاقة رويدة بزوجها لبعدهما عن بعضهما بعضاً طوال سنتين، في انتظار لمّ الشمل. كان الحبّ قد جمع بينها وبين حسام قبل عشر سنوات في جامعة حلب، لكن مع تدهور الأوضاع الأمنية في المدينة، سافرا إلى تركيا وعقدا قرانهما هناك. كانت ظروف الحياة قاسية عليهما، ولم يتمكّن أيّ منهما من العثور على عمل. اتفقا أخيراً أن يسافر حسام بحراً إلى السويد على أن يلمّ شمل زوجته بعد حصوله على الإقامة. "أردت الذهاب معه. تجادلنا كثيراً، لكنّه لم يقبل أن أخاطر بحياتي أيضاً، خصوصاً أنني كنت حاملاً بطفلنا الأوّل".
وصل حسام إلى السويد بسلام، لكنّه لم يحصل على إقامة إلا بعد سنة ونصف السنة. وحين تقدّم بطلب لمّ الشمل، أتى الردّ بالرفض. "لم يعترفوا بإثبات الزواج الذي تقدّمنا به. ربما ظنّوا أنّ علاقتنا وهمية وهي بغرض الهجرة مثلما يفعل البعض، لا سيما أننا أبرمنا عقد زواجنا في تركيا وليس في سورية". لم تكن العلاقة بين الزوجين على أفضل حال في تلك المرحلة. "كنت في تركيا وحيدة. أجهضت طفلي، ولم أجد عملاً إلا بعد سنة تقريباً. كانت الضغوط كبيرة. تحوّلت علاقتنا إلى افتراضية عبر شبكة الإنترنت. بتنا نعيش في عالمَين منفصلين تماماً، لكلّ منّا همومه وظروفه. ورحنا في الفترة الأخيرة نتجادل كل يوم تقريباً. كنت ألومه لأنّه تركني وحدي ولم يصطحبني معه".
بعدما رفضوا منح رويدة تأشيرة دخول، "باتت علاقتنا عند مفترق طرق. وقرّرتُ المخاطرة بحياتي حتى لا أخسره. اتفقتُ مع مهرّب وسافرتُ بحراً من دون إخباره. كان ذلك في الشتاء وكنت خائفة من الغرق. لم أكن لأفعل هذا لو أنني لم أجد الأبواب كلها مغلقة في وجهي". فور وصولها إلى اليونان، اتصلت رويدة بحسام لتعلمه بأنها في طريقها إليه. "أشكر الله أنّ كل هذا مضى إلى غير رجعة".
أحمد: نسيني أطفالي
مضت ثلاث سنوات ونصف السنة مذ رأى أحمد زوجته وأطفاله الأربعة لآخر مرّة في سورية. كان أحمد ضابطاً في الجيش السوري، أرسل بمهمة عسكرية إلى مدينة حلب. هناك، قرّر الانشقاق، فهرب إلى تركيا بمفرده. "كنت قد أخبرت زوجتي بأنني أنوي ذلك. وافقتني واتفقنا أن تلحق بي بعد فترة. من تركيا توجّهت إلى الامارات، لكنني لم أتمكّن من الحصول على إقامة نظامية، لأنني كنت عسكرياً ولا أملك أيّ أوراق مدنية نظامية. بقيتُ هناك سنتَين، من دون أيّ بصيص أمل للقائهم من جديد".
فقدان الأمل دفع أحمد إلى العودة إلى تركيا، والانطلاق منها في أحد قوارب الموت. "وصلت إلى ألمانيا قبل أربعة أشهر، وما زلت أنتظر الإقامة حتى أتمكن من طلب لمّ شمل عائلتي. لم أفكّر يوماً في الهجرة إلى أوروبا، لكنني كنت مجبراً. كلّ ما أريده هو أوراق نظامية لأعيش مع عائلتي كأيّ إنسان في هذا العالم".
أحمد قلق دائماً على زوجته وأطفاله. طوال السنوات الثلاث الماضية، ظلّ يكبح رغبة في الاتصال هاتفياً وسماع صوت أطفاله وزوجته. "أظنّ أنّ الخطوط الهاتفية مراقبة، وربما يتّهمونهم بالتواصل معي. لا أريد أن أتسبّب لهم بأيّ أذى. وأكتفي اليوم بصورهم التي تصلني من أحد الأقرباء، كذلك أطّلع على صفحة ابني الأكبر على فيسبوك. من خلالها، أعرف بما يفكّر وما يحبّ. بالتأكيد، لا أعلّق ولا أتواصل معه". آخر مرّة رآهم فيها، كانت عبر اتصال عبر "سكايب" وشبكة إنترنت آمنة وفّرها لهم أحد الأصدقاء. "شعرت بأنّهم لا يعرفونني، خصوصاً طفلاي الصغيران. الأصغر في الرابعة من عمره. لا يعرفني. والثاني في السادسة، بالكاد يذكرني. في إحدى المكالمات ناداني عمّو بدلاً من بابا. هذا أصعب ما خبرته طوال السنوات الماضية".
صبا: شهر واحد في السنة
في بداية عام 2013، بعد اعتقال والدها، فرّت صبا مع أختها إلى تركيا. حصلتا على حقّ اللجوء إلى هولندا عن طريق سفارتها، وتوجّهتا إلى تلك البلاد الجديدة وانطلقتا في حياة جديدة. بعد أشهر، كانت صبا قد تعلّمت اللغة الهولندية وتطوّعت للعمل كمترجمة مع إحدى المنظمات المعنيّة باللاجئين. "في بداية العام الماضي، توجّهتُ مع فريق المنظمة في زيارة عمل لمخيمات اللاجئين على الحدود التركية. هناك، التقيت بإيهاب. كان متطوّعاً. لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى أدركت أنّه الذي كنت أنتظره طوال حياتي. عملنا معاً لمدّة شهر، وأغرمتُ به".
عادت صبا إلى هولندا، إلا أنّها لم تستطع نسيان إيهاب، ولا هو تمكّن من نسيانها. "اتفقنا أن أعود ونعقد قراننا هناك. لم يكن يملك جواز سفر نظامي ولا إقامة كمعظم الشباب في تركيا. لذا لم نستطع عقده في المحاكم التركية، فتزوجنا دينياً لدى أحد الشيوخ. قضينا شهراً واحداً كزوجَين في تركيا". في هولندا، لم يقبلوا طلب لمّ الشمل الذي تقدّمت به صبا، لأنّ الزواج ديني وغير مسجّل، بالتالي غير معترف به. "أوكلنا محامين في سورية لينظموا لنا عقد زواج. دفعنا رشاوى ضخمة إذ إننا لسنا في البلاد وهو مطلوب أمنياً. في النهاية، حصلنا عليه".
لم يكن باب يُفتح أمام الزوجَين الشابَين حتى يُغلق آخر. على الرغم من قبول طلب لمّ الشمل، إلا أنّ الردّ أتى بالرفض بعد نحو أربعة أشهر بحجّة عدم استيفاء الشروط. "وكّلتُ محامياً. أخبرني بأنّ المشكلة هي في أنّ عقد الزواج مبرم في سورية بعد حصولي على اللجوء في هولندا. أكّد لي أنّ الأمر سوف يسوّى، لكنّه يحتاج وقتاً".
اليوم، تجهّز صبا نفسها لزيارة زوجها في تركيا وقضاء أسابيع معه، قبل العودة إلى هولندا والافتراق من جديد. "مللتُ الفراق والوداع. لم أعش مع زوجي أكثر من شهر واحد طوال السنة الماضية. أبي، لا نعرف عنه شيئاً حتى اليوم، أمّا أمّي فمتوفاة منذ سنوات. إيهاب هو سندي الوحيد في هذه الحياة، لكنني محرومة منه أيضاً".