اعتادت بولندا أن تكون ممراً إلزامياً لكل التغييرات الجيوبوليتيكة. تقاسمها جيران أقوياء مرات عدة، الاتحاد السوفييتي (روسيا) من الشرق، وألمانيا من الغرب. "ذابت" البلاد "الدسمة" في قالب الكتلة الشيوعية لعقود عدة. أراد السوفييت جعلها "نموذجاً إخضاعياً" لباقي دول أوروبا الشرقية، لكن بضعة عمال في مرفأ غدانسك المطل على بحر البلطيق، أحدثوا تغييرات جذرية، بدأت بحركة "التضامن"، المولودة من رحم الضرائب الباهظة التي فُرضت على البولنديين، مروراً بتحدّي السلطة السياسية والعسكرية، وصولاً إلى خروج أول بابا كاثوليكي من أرضهم، يوحنا بولس الثاني، الذي يصفه بعض المؤرخين بأنه "أول من دق مسماراً في نعش الشيوعية في أوروبا الشرقية". لم تعد بولندا مدار حديث عن "درع صاروخية" أو "مناورات لحلف شمال الأطلسي"، بل عادت إلى "جذورها" الداخلية مع احتدام الصراع السياسي في البلاد، من دون بروز ملامح حلّ جدّي يمرّر المرحلة بأقلّ قدر ممكن من الخسائر.
بدأت الأزمة في البلاد مع سعي حزب "القانون والعدالة" الحاكم (يمين مسيحي قومي محافظ يمتلك 216 مقعداً في مجلس النواب و56 شيخاً) إلى إجراء سلسلة تبديلات قانونية في البنيان السياسي البولندي، على شاكلة حملة "التغيير الجيد"، من خلال إصلاح التعليم والاستعداد لإخضاع المحكمة الدستورية نهائياً والاستيلاء على وسائل الإعلام العامة أو التضييق على حق التظاهر. وبرز في هذا الصدد رئيس المحكمة الدستورية، أندري جيبلينسكي، الذي تعتبره السلطة الحاكمة "رأس حربة" المعارضة، فيما يعتبره المعارضون "الرجل الذي يواجه مساعي السلطة". كما تمّ تمرير قانون الميزانية المالية لعام 2017، يوم الجمعة، من دون السماح لنواب المعارضة بالإدلاء برأيهم، ما اعتبرته المعارضة "تهريباً" للقانون ومخالفة للدستور، ليحتلّ نواب المعارضة البرلمان، ويحاصره أنصارهم في الخارج، بطريقة سلمية.
وذكرت المعارضة في شأن التصويت على قانون الميزانية أن "عدداً من النواب لم يتمكنوا من دخول القاعة التي كان يجري فيها التصويت وأن أشخاصاً آخرين غير مصرح لهم بالمشاركة، اقترعوا في أجواء الفوضى التي سادت البرلمان لساعات". أما الحزب الحاكم، فكشف عن أنه "دعي هؤلاء النواب إلى التصويت في قاعة أخرى لأن منبر القاعة الرئيسية كان مشغولاً لساعات من قبل نحو 30 نائباً للمعارضة، أرادوا الاحتجاج على قواعد جديدة فرضت على عمل الصحافيين".
وعلى أثر سدّ مئات الأشخاص منافذ البرلمان في وارسو، تم منع نواب الأغلبية ورئيسة الوزراء، بياتا شيدلو، ورئيس الحزب المحافظ الحاكم، ياروسلاف كاتشينسكي، من مغادرة المبنى. وجرت التظاهرة بدعوة من حركة "لجنة الدفاع عن الديمقراطية" وأحزاب معارضة. وبعد إغلاق البرلمان، شقّ موكب من السيارات يقل رئيسة الوزراء وكاتشينسكي وعدداً من كبار مسؤولي حزب "القانون والعدالة"، طريقه وسط المتظاهرين وتحت حماية الشرطة، مع العلم بأن المتظاهرين رفعوا الأعلام البولندية والأوروبية، هاتفين "عار" و"أوقفوا تدمير بولندا" و"إعلام حر" و"حرية مساواة ديموقراطية".
وفي ظلّ هذه الأجواء، اتهم وزير الداخلية البولندي، ماريوش بلازاك، أحزاب المعارضة، بـ"محاولة الاستيلاء على السلطة بصورة غير شرعية"، مما دفع رئيس الجمهورية، أندري دودا، إلى الخروج من صمت طويل داعياً إلى الهدوء، كما عبر في بيان عن "الانشغال والقلق" وعرض وساطته في الأزمة. وهو ما باشره بلقاء عدد من مسؤولي المعارضة يومي الأحد والإثنين الماضيين. وعقب الاجتماع مع الرئيس، أكد زعماء أحزاب "نوفوزيسنا" (ليبرالي) و"بي إس إل" (حزب مزارعين) و"كوكيز 15" (معارض للنظام) أنهم جددوا الدعوة للرئيس للتراجع عن التضييق المقرر على وسائل الإعلام والدعوة إلى جلسة جديدة للبرلمان، اليوم الثلاثاء، لإجراء نقاش ضمن النظام وإعادة التصويت على الميزانية.
وقال المتحدث باسم الرئاسة، ماريك ماجيروفسكي، إن "الرئيس طلب تحليلات قانونية تتعلق بالجلسة البرلمانية المخصصة للتصويت، والتي احتجت عليها المعارضة، بعد أن أعلنت أهم أحزاب المعارضة السبت أنها ستحيل الأمر إلى القضاء".
من جهتها تحدثت رئيسة الحكومة عن "أولئك الذين تقوم عندهم السياسة على العراك"، فيما نددت المتحدثة باسمها، بيتا مازوريك، بـ "انتهاك القانون" من المعارضة التي سدت أبواب البرلمان واتهمتها بأنها تنوي "الإطاحة بحكومة منتخبة ديموقراطياً وشرعياً". واعتبرت أن "المعارضة تدمّر الثقة العامة والوحدة، وتدمّر الديموقراطية وأسسها، وتدمّرنا كأمة ومجتمع".
بدوره، دعا رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، في احتفال في غرب البلاد، إلى "احترام الشعب والمبادئ والقيم الدستورية". وشدّد على أنه "حين يتم حرمان الناس من الحق في تلقي المعلومات ويفرض نموذج واحد للحياة، فإن الديموقراطية تصبح لا تحتمل كما الديكتاتورية".
وحتى الآن لم تؤثر هذه المعارك المفتوحة على جبهات داخلية وخارجية على شعبية حزب "القانون والعدالة" الذي يحكم البلاد منذ عام. وهو لا يزال في المقدمة في الاستطلاعات التي تمنحه نحو 35 في المائة من المؤيدين، أي ما يفوق ما يحصل عليه أكبر حزبين معارضين مجتمعين. ويعود هذا النجاح في جانب كبير منه إلى تقديمه منحة شهرية بقيمة 120 يورو عن كل طفل ثان، وهو إجراء مكلّف لكنه لاقى استحسان البولنديين، مع العلم بأن الأحزاب المعارضة أكدت أنها ستلجأ للقضاء في شأن التصويت على الموازنة. ودعت إلى عقد جلسة جديدة للبرلمان اليوم الثلاثاء، لإجراء النقاش الذي لم يتم وإعادة عمليات التصويت موضع الجدل.
وفضلاً عن كل ذلك، يعمل "القانون والعدالة" على ترسيخ "القومية البولندية"، بعد تلبية عشرات الآلاف، يوم الأربعاء، في وارسو، نداء اليمين المتطرف للمشاركة في "مسيرة الاستقلال" السنوية على وقع هتافات "بولندا للبولنديين" وأخرى معادية للهجرة ومناهضة للاتحاد الأوروبي الذي قام متظاهرون بحرق علمه. وذكر المنظمون أن عدد المشاركين بلغ 50 ألفاً في حين قدرتهم الشرطة بنحو 25 ألفاً. وتخلل التظاهرة هتافات معادية للاتحاد الأوروبي، وداس بعض المتظاهرين على علم الاتحاد الأوروبي ثم أحرقوه، كما رفعوا لافتة كتبت عليها عبارة تُشبّه أوروبا "بمعسكرات الاعتقال" النازية. وهتفت مجموعة من المتظاهرين "بالأمس كانت موسكو، واليوم تحرمنا بروكسل من حريتنا".
تلك الـ"بولندا" خرجت من الستار الحديدي بعد سقوط جدار برلين (1989)، وتحولت إلى "دولة في طور النمو". وعلى عكس أوكرانيا، لم تحظ بولندا باهتمام دولي كبير بعد انتهاء الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، عدا محاولات أميركية مستميتة لنصب "الدرع الصاروخية" في مواجهة روسيا. يرى البولنديون أن الحل الأمثل لمنع أي تطور جيوبوليتيكي مستقبلي، سواء من الروس أو الألمان، يكمن في منح الدور لحلف شمال الأطلسي، وعلى رأسه الأميركيون، في البلاد. وذلك لتشكيل نوع من "سور حماية" شبيه بالأسوار الأميركية في اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما.
الدور البولندي الداخلي بالغ التأثير على المحيط. بولندا ليست أوكرانيا ولا جورجيا، ولكن تأثيرها الواضح في المنظومة الشيوعية في الشرق الأوروبي، مرشح للتكرار في أي مفصل تاريخي جديد. والغريب أن بولندا التي كسرت جدار الصمت أمام السوفييت، تعاني حالياً من محاولات قمع الأصوات، وكأن مرفأ غدانسك، بات في وارسو وكراكوفيا وبوزنان وفروكلاف وغيرها من المدن والمناطق التاريخية، وكأن ليش فاليسا لم ينته بعد. بقي أن يختار البولنديون "بابا" جديداً... رئيس المحكمة الدستورية، أندري جيبلينسكي.