انضم وزير الداخلية الأميركي، راين زينكي، إلى قافلة النزوح من إدارة دونالد ترامب والتي صار السماع عنها مسألة روتينية. وكل شيء يشير إلى أنها مستمرة حتى النهاية. ولهذا النزيف أكثر من سبب، إما سوء المسلك، مثل حالة زينكي، وإما لأن الرئيس يصطدم مع معظم أركان إدارته، لأنه تعذر عليهم التفاهم والتعايش معه. وهو وضع أدى إلى طلاق محتوم.
لكن هذا النزف خلق له مشكلة فاضحة وتنذر بالمزيد من العزلة والانحسار لرئاسته، مع ما يترتب على ذلك من خلل في عملية صنع القرار. فالرئيس يواجه اليوم حالة من العزوف حتى في صفوف الجمهوريين والمقربين منه، عن قبول عروضه لسد الشواغر التي تسببت بها الإقالات الأخيرة. وخاصة منصب كبير موظفي البيت الأبيض الذي يصبح شاغراً بمغادرة جون كيلي في نهاية السنة.
ومع أن الرئيس عرض على أكثر من نائب وحاكم ولاية ومسؤول جمهوري سابق، وحليف لتولي هذا الموقع، إلا أنه جوبه بالرفض والاعتذار بالرغم من مغريات هذا الموقع النافذ. بالنتيجة اضطر لإسناد الوظيفة بالوكالة إلى مدير مكتب الموازنة، ميك ملفاني، وحتى إشعار آخر قد يمتد حتى نهاية الولاية. وكأن هناك هروبا جمهوريا من ركوب مركب ترامب المثقوب، وتخوف من توسع ثقوبه في ضوء ما أوحت به التطورات الأخيرة للتحقيقات الروسية والمعلومات "المؤذية" التي كشفها محامي ترامب السابق مايكل كوهين أمام المحكمة أواخر الأسبوع الماضي.
ولم يقتصر الهروب على هذه الجبهة، بل شمل أيضاً الكونغرس، حيث بدأ قسم من الجمهوريين فيه بوضع فواصل بينهم وبين الرئيس ولأول مرة. بل بدأوا بالتصادم المكشوف مع مواقفه، كما جرى في تصويت مجلس الشيوخ على مشروع لوقف الدعم الأميركي للسعودية في حرب اليمن.
وبعد التصويت ب 56 مقابل 41 بنتيجة انشقاق 7 جمهوريين عن الرئيس وتغيّب 3، مرّر المجلس قراراً بتأييد جمهوري–ديمقراطي واسع "بإدانة قتل الصحافي جمال خاشقجي" مع ربط مسؤولية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المباشرة بمقتله. ولم تنفع ضغوط البيت الأبيض ومحاولاته ثني الجمهوريين ومناشدتهم لصرف النظر عن هذا الموضوع، بحجة أنه ينال من أهمية العلاقات مع المملكة. بل بدا إصرار المجلس على التصويت المشترك غير المسبوق في زمن ترامب وكأنه أيضاً إدانة لموقف البيت الأبيض من قضية خاشقجي.
وما لا يقل أهمية وربما كان الأهم، أن الكونغرس بعث برسالة بأنه يعزم من الآن وصاعداً التدخل في ملفات السياسة الخارجية. خاصة وأن سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب القادم في مطلع العام المقبل، من شأنها تعزيز ودعم مثل هذا الدور.
في النظام الأميركي يتمتع الرئيس بمساحة واسعة للتصرف في الشؤون الخارجية. لكن ترامب كسر قواعد الممارسة المتوارثة، وأثار مخاوف واعتراضات المؤسسة ونخبها السياسية والفكرية. ومنها بعض الجمهوريين التقليديين في الكونغرس والذين رأوا في حرب اليمن ثم في جريمة خاشقجي، مدخلاً لمحاولة ضبط الأمور والحد من خسائر السياسات التي يخشون عواقبها.
وفي ذلك بداية خروج محتمل عن خط الرئيس، خلافاً لما كان عليه الحال في الفترة الماضية من رئاسة ترامب. سياسات الرئيس الداخلية خاصة في موضوع الهجرة واللاجئين والرعاية الصحية، بدأت تنعكس نتائجها بصورة سلبية في صفوف الناخبين خاصة المستقلين. حصيلة دفع ثمنها الجمهوريون في انتخابات الكونغرس الأخيرة ويخشون دفع المزيد في انتخابات 2020.
بالإضافة إلى ذلك، يعود ضمور نفوذ البيت الأبيض في أوساط الجمهوريين إلى تزايد متاعب الرئيس، وانكشاف الكثير من خفاياها المالية والروسية ولو أن ثبوتها القانوني غير محسوم بعد بانتظار التقرير النهائي للمحقق مولر.
التهجير والهروب من إدارة ترامب ظاهرة رافقتها من البداية. وهو خلل ليس في واشنطن من أحد لا يعرف منبعه.