وصلت أمام مركز استلام ملفات طلبات الفيزا في أنقرة. كان الزحام صادماً بالنسبة لي. مررت منذ ساعة تقريباً ودخلت بأناقة. وقفت وحدي أمام الباب، لكن نقص أوراقي واضطراري إلى المغادرة لاستكمالها، والعودة في بداية دوام الظهيرة، جعلتني أرى المشهد من أوّله. الموظفة التي طلبت مني استكمال أوراقي، شرحت لموظفي الاستقبال، أنني سأعود حتى تجنبني الانتظار، لأنّ إجراءات ملفي في طور الانتهاء. خجلت من تجاوز الدور الطويل، لأصل إلى الموظف الذي سيتعرف عليّ ويسمح لي بالدخول، إضافة إلى جهلي اللغة التركية الذي سيعرضني لصعوبة شرح أنّني كنت هنا منذ قليل وعدت.
انتظرت بين الآخرين، حيث أقدّم طلب فيزا لقريبة لي سترافقني إلى فرنسا. كنا نتحدث العربية، وسط الزحام، حين التفت نحوي رجل عجوز يقف أمامي، وسألني بالعربية عن منشأي. لأعرف أنه من حلب.
الرجل السبعيني الهرِم لمعت عيناه برجاء وهو يسألني وكأنني عرّافة تقرأ في المستقبل: "يا ترى بيعطوني فيزا لبلجيكا"؟ ثمّ استفاض شارحاً، ليحصل مني على رد مبهم، بعد أن أخبرني أنّه سافر إلى بلجيكا سابقاً، وما إن أعطيته جوابي، أنّ لا قاعدة ثابتة في منح الفيز، وأنّ حصوله السابق على الفيزا، لا يعني تسهيل الأمر. الرجل السبعيني الذي تلمع عيناه بشغف الأطفال المنتظرين فرحة العيد، أجابني بيأس: "ذهبت إلى بلجيكا منذ أكثر من ثلاثين عاماً". أراد التأكيد لنفسه، أنّ ذهابه قبل ثلاثين عاماً لن يسهّل حصوله على الفيزا الآن. شاب سوري سمع حديثنا، فقال مطمئناً العجوز: "أنت رجل كبير، أكيد بيعطوك الفيزا". لم أتدخل لتبديد أحلام الحلبي بجواب الشاب غير المنطقي. صمتُ وأنا أرى ذلك اللمعان الاستجدائي في عينيّ العجوز.
وصل الرجل قبلي. رأتني الموظفة التي تقف على حاجز الاستقبال، فدعتني. شعرت بحزن وأنا أسير خلف الموظفة، برفقة قريبتي الشابة، أنظر إلى هذا الزحام، وأرى أغلب الأيدي تحمل جوازات سفر تحمل عبارة (الجمهورية العربية السورية)، عجائز، شباب، نساء ورجال، يكرّرون صرخة فاتن حمامة، "أريد حلاً". إذ يؤمن معظم السوريين اليوم أنّ الحل الوحيد لأزمتهم، هو الفيزا. كما أنّهم يتدافعون ويلهثون بطرق متعددة، بالبحر، والجو، والبرّ، بطرق شرعية أو بالاحتيال، لتصبح الفيزا، همّ السوري. أريد فيزا، أريد سفراً، أريد لجوءاً، أو أو أو... صار الخلاص اليوم، هو الخروج من البلاد. فتشت عن الحلبي البلجيكي القادم، بين وجوه الناس وأنا أغادر، الذي لو لم يعد قبل ثلاثين سنة، لربما كان حصل اليوم على الجنسية البلجيكية، محققاً آمال الكثير من أهله وأقاربه، ليرسل لهم طلبات الفيزا، حيث "لمّ الشمل"، هذا المصطلح الهاجسي لأي سوري، يصل إلى الطرف الآخر من العالم، لتكون الخطوة التالية، بعد "أريد سفراً"، "أريد لمّ الشمل".
لم أر الحلبي العجوز، كان ثمة الكثير من الناس، لكن الحلبي زرع لمعان عينيه في مخيلتي، وتمنيّت له الحصول على الفيزا.