أرياف تونس تطرد أهلها

23 فبراير 2020
إلى متى يصمدان هنا؟ (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
+ الخط -
لم يعد العيش في الريف التونسي يشجّع أهله على التشبّث بأرضهم، في حين أنّ النزوح إلى المدينة ينطوي على صعوبات اجتماعية واقتصادية تطاول كثيرين من هؤلاء، بحسب ما تؤكد دراسات اهتمّت بموضوع الهجرة الداخلية. وعلى الرغم من أنّ الهجرة الداخلية ليست بجديدة في تونس وتعود إلى ستينيات القرن الماضي، فإنّها ازدادت في الأعوام الأخيرة، الأمر الذي يوحي بأنّ الأرياف صارت طاردة لسكّانها. وحركة الهجرة الداخلية في تونس تذهب في اتجاه واحد، فينتقل التونسيون المعنيون عادة من الشريط الغربي إلى مدن الشريط الشرقي، حيث الجهات الأكثر حظاً في التنمية وفرص العمل والخدمات العامة.

توفيق الخليفي.. مواطن تونسي من منطقة أولاد خليفة بمعتمدية سبيطلة في محافظة القصرين وسط غربي البلاد، يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "80 في المائة من ذكور منطقتنا هاجروا للعمل في العاصمة أو في سوسة (وسط شرق) وصفاقس (جنوب شرق)، فيما يكابد من بقي منهم صعوبات يومية من أجل توفير جرعة ماء". ويشرح الخليفي أنّ "النقطة الأقرب للتزوّد بالمياه تبعد عن ريفنا عشرة كيلومترات، ما يضطر المواطنين إلى جلب المياه بصهاريج، علماً أنّ سعة الصهريج لا تفي بحاجة أسرة لأكثر من 10 أيام كحدّ أقصى". ويسأل الخليفي: "كيف لنا أن نتشبّث بريف يفتقر إلى أدنى مقوّمات العيش؟ هنا لا صحة ولا تعليم ولا ماء ولا نقل"، لافتاً إلى أنّ "التلاميذ يقطعون يومياً 18 كيلومتراً من أجل بلوغ أقرب مدرسة". ويؤكد الخليفي أنّ "سكان الريف يحلمون بعيش أفضل لهم ولأبنائهم، ما يجبرهم على الهجرة وترك أراضيهم وزراعتهم والتحوّل إلى عمّال مهمّشين في المدن الكبرى".




من جهته، يقرّ عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، بأنّ "ثمّة زيادة في المهاجرين داخلياً من الغرب نحو الشرق. فالشريط الغربي، خصوصاً مناطقه الريفية، صار طارداً للسكان، بمن في ذلك ميسورو الحال وأصحاب الأوضاع الاجتماعية الجيدة". يضيف بن عمر لـ"العربي الجديد" أنّ "تردّي الخدمات المتعلقة بالتعليم والصحة والتجهيزات الأساسية بات السبب الأول للهجرة الداخلية في تونس"، لافتاً إلى أنّ "خيار الهجرة لم يعد مقتصراً على العاطلين من العمل وطالبي الشغل، بل صار خياراً للذين يبحثون عن ظروف عيش أفضل لهم ولأسرهم، بمن في ذلك موظفو القطاع الحكومي ومالكو الأراضي الزراعية".

ويؤكد بن عمر أنّ "تردّي الخدمات العامة وصعوبة وصول سكان الأرياف إلى الخدمات التعليمية والصحية والضعف في شبكات المياه والكهرباء، أسباب رئيسية لتحوّل الأرياف من مصدر ثروة إلى مناطق طاردة للسكان". ويتابع أنّ "الهجرة من الغرب إلى الشرق بالنسبة إلى بعض التونسيين قد تكون محطّة أولى في مشروع هجرة غير نظامية في اتجاه أوروبا. فالشبان العاطلون من العمل ينتقلون إلى المدن الساحلية للعمل بهدف توفير كلفة رحلة غير شرعية عبر البحر".

في السياق، يقول المتخصص في علم الاجتماع، طارق بالحاج محمد، في دراسة بحثية حول أسباب الهجرة الداخلية وتداعياتها، إنّ للهجرة الداخلية عموماً دوافع (على الرغم ممّا يُعرف عن التونسي من تمسّك بوطنه وبمسقط رأسه) مرتبطة غالباً بظروف اقتصادية قاهرة". ويؤكد أنّ في تونس جهات طاردة للسكان لا يتوفّر فيها الحدّ الأدنى من فرص العمل والعيش الكريم ولا تلبّي احتياجات التونسي الذي يعاني أصلاً من "انفجار في الآمال والتطلعات" بطريقة تجعله يرفض فكرة التعايش مع هذه الظروف، فيضطر إلى الهجرة إلى مدينة أخرى بحثاً عن تحسين وضعه ووضع عائلته. يضيف أنّ التونسي اليوم لا يهاجر إلى مدينة كبرى بحثاً عن فرص عمل فقط، بل كذلك بحثاً عن أمل يبقيه على قيد الحياة ويجعله يصبر على صعوباتها وعن مستقبل لأبنائه لا يمكن أن توفّره له المدن والجهات المنسيّة التي يتحدّر منها".




ويؤكد بالحاج محمد في دراسته البحثية أنّ ثمّة شريحة واسعة من الموظفين والكوادر ومن أبناء الطبقة الوسطى الذين لجأوا إلى هذا الخيار في محاولة لتأمين نمط حياة أفضل لهم ولأبنائهم، وثمّة آخرين باعوا أراضيهم الزراعية ليستقرّوا في إحدى المدن الكبرى أو أحوازها رغبة في نمط حياة التحضر. ويلفت إلى أنّ للهجرة الداخلية كلفة كبيرة على خلفية الاختلال الديموغرافي وبالتالي الاجتماعي والاقتصادي وتعميق التفاوت الجهوي الموجود أصلاً. ويكمل أنّ ذلك يتسبّب أيضاً في إفقار الجهات المهمّشة من مخزونها البشري الحيوي (خصوصاً النساء والشباب) وحرمانها من خبرة وكفاءة أبنائها حاملي الشهادات الدراسية والمهنية المتوسطة والعالية الذين قد يمثلون رافعة للنهوض الاقتصادي والاجتماعي في مدنهم وجهاتهم، لولا اختيارهم الاستقرار بعيداً عنها. ولا ينسى بالحاج محمد أنّ النزوح يؤدي كذلك إلى بروز تمييز بين سكان المدن الأصليين والوافدين الجدد، خصوصاً في الأحواز والضواحي والأحياء الشعبية، الأمر الذي يعمّق الشرخ الاجتماعي، فتصير المدينة "كنتونات" غير متجانسة، لا بل متنافرة ومتصارعة.