للمرة الأولى منذ سبعين عاماً، عاد صوت الأذان ليتردّد من جديد في أرجاء قرية الطنطورة المنكوبة، بعد أن أسكتت آلة الحرب الإسرائيلية صوت الحياة فيها، واقترفت واحدة من أبشع مجازرها إبّان النكبة، أتبعتها بتهجير أهالي القرية، ثم محو شواهدها الفلسطينية.
المجزرة التي تحلّ ذكراها السبعون اليوم الجمعة، أحياها المئات من فلسطيني الداخل بمشاركة مهجّري القرية، الذين بقوا في وطنهم داخل حدود الخط الأخضر، ضمن مبادرة نظّمتها جمعية "فلسطينيات". ومع غروب شمس ثاني جمعة من رمضان، رفع المشاركون أذان المغرب معاً في القرية، وتناولوا الإفطار بشكل جماعي.
المبادرة التي تعدّ الرابعة من نوعها، بعد أن أحيا الفلسطينيون ذكرى مجزرة الطنطورة داخل القرية عام 2015 للمرة الأولى، سار خلالها المشاركون على أنقاض قرية الطنطورة، حاملين أغصان الزيتون والأعلام الفلسطينية، وأكاليل الورد، وكذلك قرأوا الفاتحة على أرواح الشهداء، بعدما وضعوا الأكاليل على المقبرة الجماعية، التي لا ذكر لها اليوم سوى في شهادات الناجين من المذبحة.
وشمل البرنامج فقرة فنية، شاركت خلالها فرقة البراق المقدسية للأناشيد الإسلامية، والفنانة ريم تلحمي، والفنان حسن طه.
جريمة دولة
وتقع قرية الطنطورة جنوبي مدينة حيفا، حيث اقترفت العصابات الصهيونية إحدى أفظع مجازرها بتاريخ 22 و23 مايو/ أيار، وقتلت بدم بارد أكثر من 200 شخص، قبل أن يقيم الاحتلال على أنقاض القرية المنكوبة مستعمرة "نحشوليم" ومنتجعاً سياحياً.
وتختلف مجزرة الطنطورة عن بقية المجازر في فلسطين، إذ إنها ارتكبت بيد قوات جيش الاحتلال بعد أسبوع من إعلان "قيام دولة إسرائيل"، واختار الجيش هذه القرية خصيصاً بسبب موقعها على ساحل البحر المتوسط، الذي اتّهموا أهل القرية بأنهم حوّلوه إلى مرفأ لتوريد السلاح.
وعلى منصة قرب الشاطئ، نشرت جميع أسماء الشهداء في الطنطورة، وأسماء شهداء غزة في مسيرات العودة.
وقال جهاد أبو ريا، مدير جمعية "فلسطينيات": "الطنطورة الطاهرة على أرض مجبولة بالدماء؛ هنا في هذا المكان أعدم الصهاينة الشباب بعد أسرهم، وأجبروهم على أن يحفروا قبورهم بأيديهم. نحن نعود بعد سبعين عاماً كي نقول إنهم قتلة وإنهم مجرمون، وإن هذه الجريمة ستلاحقهم إلى الأبد. الطنطورة هي رمز لكل المجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين".
أمّا محمد فوزي عبد الرحيم، وهو من مهجّري الطنطورة، فقال "أبي من مواليد الطنطورة، ويقع بيتنا مكان القاعة. نحن نزور الطنطورة كل أسبوع أو أسبوعين. حضرت إلى هنا مع أبنائي وأنسبائي. هذا النشاط مهم جداً لإحياء قرية الطنطورة، التي ما زالت تعيش بداخلنا".
وأضاف "أسكن اليوم في الطيبة، والدي كان قد خرج من الطنطورة في عام النكبة إلى سورية، وعاد إلى الضفة الغربية ومن ثم إلى طيبة المثلث".
أما الحاج خالد مصري، وهو من مواليد الطنطورة عام 1938، ويقطن اليوم في مدينة الطيبة في المثلث، فقال "كان عمري عشر سنوات. بقيت مع النساء، أبي سليمان مصطفى الأطرش كان ابن 45 سنة، وأخي قتلوه أيضًا؛ اسمه عيسى سليمان الأطرش، كان ابن 17 عاماً. أطلقوا عليهما الرصاص وهما واقفان قرب الحائط.
غير أنّ درب المعاناة لم ينتهِ عند هذا الحدّ، فالمجزرة الصهيونية لم تسلب الحاج خالد مصري إخوته وأقاربه فحسب؛ بل شتّتت جمع العائلة، وزادت الفاقدين فقدًا. يقول: "إخوتي يسكنون في الفرديس (قرية مجاورة للطنطورة). أعمامي وعمتي خرجوا إلى لبنان. وبقينا أنا وأمي وإخوتي".