كانت المساعدات المصرية للسودان في مختلف المجالات لاستمالته في الخطوات المستقبلية لمسار مفاوضات سد النهضة وإسكات الأصوات التي تعلو بين حين وآخر لإشعال الخلافات حول مثلث حلايب وشلاتين، هي العنوان الأبرز للزيارة التي أجراها رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أمس السبت إلى الخرطوم، مصطحباً معه مجموعة من وزراء الحقائب الخدمية تمهيداً لإعلان الخطوات التنفيذية لمشاريع تنموية مشتركة في مجالات الكهرباء والطاقة والزراعة والتعدين، فضلاً عن إعلان تسليم أكثر من 22 طناً من الأدوية وألبان الأطفال وأجهزة تحاليل واستكشاف مبكر للأمراض وقوافل طبية مؤقتة لإعانة منظومة الصحة.
واعتُبرت الزيارة خطوة تنفيذية لما تعهد به الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مارس/آذار الماضي بإرسال مزيد من المساعدات لمجلس السيادة السوداني، على مستوى الدعم الفني والمالي في مجالات مرفقية وخدمية، فضلاً عن عروض الوساطة لدى بعض الدول الأوروبية لاجتذاب المزيد من المساعدات والقروض، إلى جانب المضي قدماً في ملف التعاون الأمني والاستخباراتي والتواصل مع عدد من الجهات الدولية المانحة في أوروبا ووزارة الخزانة الأميركية، لدعم موقف السودان في المطالبة بالحصول على عدد من القروض التنموية وإسقاط مديونيات قديمة.
لكن وبالتوازي مع هذا المسار، تبذل مصر جهوداً أخرى للإسراع بإدخال السودان دائرة الدول العربية المطبّعة مع إسرائيل، كجزء من التخطيط الأميركي الجديد للمنطقة، مغرية الخرطوم بانهمار المساعدات المالية واللوجستية عليها من الولايات المتحدة وأوروبا ودول خليجية بارزة منها الإمارات والسعودية، الأمر الذي ما زال قيد الدراسة والنقاشات والخلافات داخل مجلس السيادة السوداني، بحسب مصادر دبلوماسية مصرية وخليجية تحدثت لـ"العربي الجديد" عن الدور المصري الحالي في تسويق الخطة الأميركية للتطبيع، بعد دخول الإمارات كحليف ربما يصبح الأقوى لإسرائيل في المنطقة. وأضافت المصادر أن "المحادثات المصرية السودانية في هذا السياق ما زالت مقتصرة على المستوى الرئاسي والاستخباراتي، لكن المسؤولين العسكريين السودانيين، الذين ليست لديهم مشاكل كبيرة في اتخاذ هذه الخطوة، يواجهون صعوبات في إقناع شركائهم المدنيين داخل مجلس السيادة، وهم قلقون أيضاً من ردة الفعل الشعبية، ولذلك فحتى الآن هناك تفضيل لأخذ خطوات صغيرة، من دون اندفاع".
تبذل مصر جهوداً للإسراع بإدخال السودان دائرة الدول العربية المطبّعة مع إسرائيل
وأعلن السودان في فبراير/شباط الماضي، الموافقة بصورة مبدئية على تحليق طائرات إسرائيلية في أجوائه، عقب يومين من اجتماع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في أوغندا. وكانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، تعتبر السودان دوماً تهديداً أمنياً، وتدعي في عهد رئيسه المخلوع عمر البشير أن إيران استخدمت الأراضي السودانية لتهريب أسلحة إلى قطاع غزة.
وأوضحت المصادر أن "السيسي يعتقد أن مشاركته في الخطة الأميركية، والتي بدأت منذ ما قبل تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، هي حتمية لكي يستمر نظامه على علاقة طيبة بالإدارة الأميركية الحالية، التي تراهن على تسريع هذه الخطة كجزء من الدعاية الانتخابية، أو الإدارات التالية"، مستطردة بقولها "السيسي مؤمن أن هذا هو أقصى ما يمكن تقديمه للحفاظ على الدور المصري في المنطقة، إلى جانب مشاريع الطاقة في شرق المتوسط، إذا ما قورن إسهام القاهرة بإسهام الدول الخليجية وعلاقاتها القائمة مع واشنطن على المال والطاقة، والصراع المتصاعد بين السعودية والإمارات على مستوى، وبينهما وبين قطر على مستوى آخر، حول مساحات التأثير في العالم العربي، والذي أدى إلى تراجع مكانة مصر ودورها في عهده".
أما بشأن التكهنات السياسية الدائرة في كواليس الأروقة الدبلوماسية عن لحاق البحرين وسلطنة عُمان قريباً بركب الدول المطبّعة مع الاحتلال الإسرائيلي، وما إذا كانت السودان والسعودية ستنضمان قريباً لإعلان مشابه، قالت المصادر: "المنامة حتى الآن هي الأقرب بالفعل، وهناك مباحثات متقدمة تجري في هذا الشأن يديرها مستشار الرئيس الأميركي وصهره جاريد كوشنر بمشاركة سعودية، لكن انضمام الرياض نفسها ما زال محل شك، على الرغم من الدور المصري الذي لعبه السيسي أيضاً في مرحلة سابقة لخلق سبل اتصال وتنسيق مباشرة بين السعودية والإسرائيليين، بتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية بمباركة إسرائيلية، ونقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة، لتدخل بذلك طرفاً في العلاقات الأمنية والسياسية القائمة بين مصر والأردن والاحتلال الإسرائيلي". واستدركت المصادر بأن "الجهود المصرية لا تجعل السودان بعيداً عن الانضمام للركب قريباً، لا سيما إذا ضمنت إطالة الفترة الانتقالية الحالية وعلى رأسها مجلس السيادة، أو انتقال السلطة لتكون دائمة بحوزة شخصيات عسكرية أو مدنيين يمكن التفاهم معهم حول هذه المسألة".
وذكرت المصادر أن "السعودية تحت قيادة محمد بن سلمان ليست لديها موانع في المشاركة في تحالفات اقتصادية، بمشاركة إسرائيلية ومصرية ودول أخرى برعاية أميركية، لكن إدارتها الحالية ترى أن الوقت غير ملائم تماما على المستوى الشعبي لاتخاذ خطوة تعادل ما فعلته الإمارات". وأشارت المصادر إلى أن مشاريع تطوير البنية التحتية لدول الشرق الأوسط لتداول الغاز الطبيعي وإسالته، هي مدخل أساسي للمضي قدماً في مشاريع التسوية بين الأنظمة العربية والاحتلال الإسرائيلي، وتصفية القضية الفلسطينية، فالسعودية التي بحثت بالفعل شراء الغاز الطبيعي من إسرائيل، قريبة من الإسهام في تصورات لتدشين مشاريع مشتركة بين دول المنطقة في ساحة البحر الأحمر برعاية أميركية.
السعودية تحت قيادة بن سلمان ليست لديها موانع في المشاركة في تحالفات اقتصادية، بمشاركة إسرائيلية ومصرية ودول أخرى برعاية أميركية
ومن ضمن الأوراق التي تطرحها مصر، أن تشارك السعودية في مشروع مستقبلي يجري الاتفاق على تفاصيله مع إسرائيل لإقامة وحدة أو اثنتين لإسالة الغاز الطبيعي الإسرائيلي والمصري في البحر الأحمر، بهدف تصديره إلى الخليج ودول آسيا، لمزاحمة أكبر الدول المصدّرة للغاز إلى الدول الصناعية الكبرى في جنوب آسيا والمعروفة بأنها من الأكثر استهلاكاً للطاقة في العالم مثل الصين واليابان. ومن بين الأفكار التي تُطرح أيضاً لهذا المشروع، دخول السودان بعد التطبيع كشريك مقابل مساعدات كبيرة له لتوسيع إمكانياته التعدينية في البحر الأحمر، ومن دون الحاجة لترسيم الحدود البحرية مع السعودية أو مصر، حيث ستبقى مسألة مثلث حلايب وشلاتين تلقي بظلالها على هذه النقطة.
والأفكار المصرية الإسرائيلية، التي نوقشت بالفعل في اجتماعات منتدى شرق البحر المتوسط للغاز، مدعومة من بعض الشركات الناشطة في هذا المجال، في ضوء التعاون المتقدّم بين شركات "نوبل إينرجي" الأميركية، و"ديليك" الإسرائيلية، و"غاز الشرق" المصرية المملوكة حالياً للدولة ممثلة في جهاز المخابرات العامة وهيئة البترول (تختلف عن شركة غاز شرق البحر المتوسط محل الصفقة ومالكة شبكة الأنابيب بين البلدين) وكذلك "دولفينوس" المملوكة لمستثمرين مصريين.
من ضمن الأوراق التي تطرحها مصر، أن تشارك السعودية في مشروع مستقبلي مع إسرائيل لإقامة وحدة أو اثنتين لإسالة الغاز الطبيعي الإسرائيلي والمصري
من جهتها، ستستفيد السعودية نظرياً من المشاركة في مشروع كهذا، فهي في حاجة إلى الغاز الذي يخضع لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي، والأخير في حاجة إلى وحدة لإسالة الغاز لضمان تحقيق قدر أكبر من الأرباح عند التصدير. أما مصر فقد أبدت للجانب الإسرائيلي استعدادها لإقامة وحدة الإسالة في منطقة صناعية جديدة على شاطئ البحر الأحمر كجزء من مساعي نظام السيسي لجذب الاستثمارات الأجنبية إلى منطقة الصحراء الشرقية وجنوب السويس وتوفير المزيد من فرص العمل المؤقتة والدائمة، كما حدث لدى إنشاء وحدتي الإسالة اللتين تتميز مصر بهما في هذه المنطقة، على شاطئ البحر المتوسط، في إدكو ودمياط.
وسبق أن قال مصدر مصري العام الماضي لـ"العربي الجديد" إنه في حال الاتفاق على تطوير مشروع كبير للطاقة في منطقة البحر الأحمر، فسوف يتحتم على السعودية تمويل الجزء الأكبر منه، مقابل الحصول على حصتها من الغاز المسال بصفة دائمة والتشارك مع مصر وحكومة الاحتلال في أرباح التصدير على المدى الطويل. ولا يمكن النظر إلى هذا المشروع باعتباره الوحيد الذي يمكن تنفيذه في منطقة البحر الأحمر، فبعد إقرار اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، بدأت الدولتان البحث عن استغلال الغاز في المنطقة الاقتصادية لكل منهما، وفقاً لتصريحات الوزير السعودي خالد الفالح في مارس/آذار 2019، الذي تحدث عن أن الشركة المحلية "أرامكو" ستعمل على التنقيب خلال العامين المقبلين. وفي الشهر ذاته، أعلنت وزارة البترول المصرية من خلال شركة "جنوب الوادي" الحكومية عن طرح مزايدة عالمية للبحث والتنقيب والاستغلال في 10 قطاعات في البحر الأحمر وانتهت، الخميس، مدة تلقي العروض.
ووفقاً للشق المالي من "صفقة القرن" الأميركية والذي انفردت "العربي الجديد" بنشر تفاصيلها عشية ورشة المنامة التي عقدت يومي 25 و26 يونيو/حزيران 2019، فإن دول الخليج العربي، وبالأخص السعودية والإمارات، ستموّل أكثر من 50 في المائة من المبالغ المخصصة لمصر وقيمتها 9,167 مليارات دولار، في شكل قروض، وتفرد الصفقة أولوية واضحة لمشاريع ربط الطاقة والاستثمار فيها بين مصر وإسرائيل والدولة الفلسطينية لتوفير فرص العمل للفلسطينيين والمصريين وزيادة العوائد المالية على القاهرة. ومن المقرر أن يتم تخصيص مليار و500 مليون دولار لدعم الجهود المصرية المشتركة مع الإسرائيليين لإنشاء مركز إقليمي كبير للغاز الطبيعي في مصر، وتوظيف الإنتاج الكبير من الحقول المصرية وتحسين جودة شبكات نقل الغاز والغاز المسال، وذلك على مدار 5 سنوات، وتخصيص 5 مليارات دولار كاملة لدعم البنية التحتية للدولة المصرية بصفة عامة، نصفها في صورة قروض على مدار 10 سنوات، وتخصيص نصف مليار دولار لدعم الجهود المصرية لإنشاء وتطوير المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وزيادة المشاريع والمصانع والمناطق اللوجستية فيها، مع تخصيص نسبة من العمالة المؤقتة والدائمة فيها للفلسطينيين.
وفي إبريل/نيسان 2019، قالت مصادر مصرية لـ"العربي الجديد"، إن السيسي ناقش مع ترامب ومستشاريه في واشنطن مسألة مستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية، إذ ربطت إدارة ترامب إمكانية حدوث انفراجة في ما يتعلق بالأوضاع الإنسانية في غزة وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولة قابلة للحياة، بضرورة انخراط أكبر عدد ممكن من الدول العربية في علاقات حية ومستدامة مع الإسرائيليين، الأمر الذي لم يرفضه السيسي بالطبع، لكنه اختلف آنذاك مع ترامب على التوقيت، لكن التطبيع الإماراتي الإسرائيلي جاء لينقل النقاشات لمستوى آخر أكثر عملية.