شهدت السنوات الخمس الأخيرة في اليمن، الذي يعاني الحرب، تراجعاً ثقافياً كبيراً، انعكس سلباً على كافة الجوانب إلى حدٍ شُلّت فيه حركة الإنتاج الإبداعي وتوقف النشاط الأدبي بشكل شبه تام، وخفتَ صوت الكلمة خلف ضجيج آلة الحرب. تلك الصورة القاتمة عن المشهد الثقافي أفرزت حالة من اليأس لا سيما لدى فئات موسّعة من الكتّاب اليمنيين الشباب، وجعلتهم يعيشون في عزلة إبداعية فلا تقدر نصوصهم على صنع حالة من التفاعل، ناهيك عن التأثير.
كانت هذه العزلة هاجس "المؤتمر الأول للأدباء والكتاب اليمنيين الشباب" الذي أقيم الإثنين والثلاثاء الماضيين في صنعاء واستمر ليومين، تحت عنوان "أدب الشباب اليمني وحضوره الإبداعي في مطلع الألفية الجديدة"، وهي تظاهرة يصرّح بيانها بأنها تأتي ضمن محاولة لـ"كسر العزلة الثقافية والأدبية التي فرضتها الحرب وآثارها، والنهوض بالمشهد الأدبي اليمني".
تضمّن المؤتمر جلستين، إحداهما نقدية، سلّط الباحثون المشاركون فيها الضوء على الحركة الأدبية الشبابية المعاصرة، مع رصدٍ وتوثيقٍ لأدب الشباب اليمني في الألفية الثالثة (من 2000 إلى 2019) في محاولة للخروج ببيبلوغرافيا شاملة لعقدين من الزمن، تُمثّل بنكاً معلوماتياً متاحاً؛ لتسهيل عملية البحث للمهتمين في اليمن وخارجه، وهو ما افتقرت إليه المكتبة اليمنية خلال العقود الماضية.
وتضمنت الجلسة الثانية ندوة أدبية شارك فيها شعراء وكتّاب من صنعاء وذمار والحديدة وريمة، ألقيت خلالها القصائد العمودية والنثرية وقرئت خلالها القصص القصيرة، وهي نصوص تلامس مضامينها مأساة اليمن الحالية ومعضلات الحياة اليومية. كما تستنطق بعض النصوص تاريخ اليمن وتستعيد أمجاد ماضيه، وتعكس مدى وعي الكتّاب بفداحة الحرب، وأهمية العبور على الآلام في سبيل مداواة جراح الوطن الغائرة.
في حديث إلى "العربي الجديد" يقول رئيس المؤتمر، الشاعر أنور البخيتي، أن هذه المبادرة تسعى إلى "تحفيز الحركة النقدية على مواكبة الأعمال الشعرية والسردية لإثراء المشهد الأدبي اليمني والعربي والعالمي، والاستفادة من الثورة التكنولوجية ووسائل التواصل الحديثة لكسر العزلة الثقافية وإبراز المشهد الأدبي عربياً وعالمياً"، كما أشار إلى أن المؤتمر سيقام بوتيرة سنوية.
كانت للبخيتي أيضاً ورقة قدّمها ضمن المؤتمر بعنوان "ببلوغرافيا الشعر العربي المعاصر في اليمن (شعر الشباب 2000 – 2020)". تقول نتائجها إن "عدد المجموعات الشعرية المطبوعة خلال الفترة بلغ 139 مجموعة، بينما بلغت المجموعات التي لا زالت تحت الطبع 25، في حين أن 25 مجموعة لا تزال مخطوطة، وبلغ عدد الشعراء الذين لهم حضور في الصحف والمجلات 58 شاعراً وشاعرة".
وبحسب الببلوغرافيا فإن "نسبة الإصدارات الشعرية المطبوعة داخل اليمن 70%، بينما 30% خارجها"، وفي العقد الأخير بلغت الإصدارات "66% بينما بلغت في العقد الأول 34%"، وإن كان ثمة دلالة فإنها تعكس حالة الضعف التي يعانيها الأدب اليمني خلال العقد الأخير.
على مستوى المضامين، اعتبر عبد الله صلاح في ورقة حملت عنوان "الحركة الشعرية الشبابية (2010 – 2019)" أن ثيمة الوطن/ المكان أكثر ما "شغل نفسية الشعراء، وملأ كياناتهم، في طابعه الرمزي والوجودي، فبدا في صورة نصوص مركزية، نابعة من حساسية الواقع وقضاياه الجوهرية، بل تظهر المقاربة أن الوطن/ الجسد الجريح والحزين قد أصبح بمثابة الشاغل الفكري والنفسي والجمالي لغالبية الشعراء الشباب خلال العقد الأخير".
توقفت الدراسة بالدرجة الأولى على العتبات النصية، من خلال استنطاق بنيتها اللغوية والتركيبية، إذ تبين طغيان علامات دالة موحدة. يقول صلاح: "كان الوطن، إلى جانب شغله وهيمنته على عناوين الدواوين الشعرية، مهيمناً على مساحات النصوص الموازية الأخرى، ومنها الإهداءات، كقيمة التصقت بوجدان الشعراء أكثر من قيمة الأهل والأحباب والأصدقاء".
يضيف صلاح في نقده أن "بروز البعد العلائقي بقوة بين الذات الشاعرة والوطن في العتبات النصية، يحدد هوية المشهد الشعري، كخلاصة أو فكرة عامة تأبى الكينونة الشعرية المشبعة بترسبات الواقع وتجاعيده، إلا أن تجعل من هذه العتبات أو العناوين أيقونة إبداعية لها وظيفتها البصرية واللغوية والدلالية، بل إنها تجعل منها وظيفة وطنية وانفعالية تستفز المتلقي وتثير انتباهه لمقصدية النص ونوايا المبدع".
من جهتها، أشارت الباحثة والناقدة اليمنية أميرة شايف الكولي، في ورقة بعنوان "ببلوغرافيا السرد المعاصر في اليمن (القصة والرواية في سرد الشباب 2000 – 2020)" إلى أن هذه الفئة "بلغت إصداراتها القصصية في العقد الأول من هذه الفترة 20 % في حين كانت إصدارات العقد الثاني 80 % من نسبة الإصدارات العامة"، لكن هذا الحضور القوي في القصة لا نجد نظيره في الرواية حيث رصدت الباحثة 11 إصداراً روائياً فقط، وهي نسبة قد تعود نتيجتها إلى ما تحتاجه الرواية من إمكانات وقدرات يفتقدها الشباب في بداية رحلتهم الإبداعية.
تشير الدراسة التي جمعت من خلال التواصل الشخصي مع الكتّاب، كما توضح الكولي، إلى أن ما نسبته "36% من الإصدارات الشبابية خلال الفترة المدروسة طُبعت داخل اليمن، بينما 64% طبعت في دور نشر خارج اليمن".
وقدمت الكولي في المؤتمر دراسة أخرى بعنوان "الجماعات والحركات الأدبية الشابة"، تضمّنت محاولة لحصر الحركات والتكتلات والمجموعات الأدبية الفاعلة، ومراحل تطورها ونشاطاتها وإسهاماتها في الواقع الثقافي، وفي هذا السياق تشرح أنه "ظهر في جيل الشباب عدد من الجماعات الأدبية التي أسهمت في تشكيل واجهة الحركات والجماعات الأدبية والثقافية ضمن جيل الشباب في الألفية الثالثة، وكان أبرز هذه الجماعات، على سبيل العرض لا الحصر، رابطة البردوني الثقافية ورابطة جدل وجماعة وحي وأناجيل ونحو ثورة ثقافية وحركة الأدباء المستقلين والحركة الاحتجاجية لاستعادة دور الاتحاد".
تقول الباحثة في حديث إلى "العربي الجديد" إن "هذه الورقة هي جزء من مشروع كتاب، فبعد أن ترد ضمن الكتاب الصادر عن المؤتمر ستصبح كتاباً مستقلاً في المستقبل القريب".
يذكر أن الكتاب الذي سيجمع المساهمات في المؤتمر من المتوقع أن يتضمّن ست دراسات علمية أكاديمية قام بها أكاديميون من جامعات صنعاء وعدن وذمار، "وهي حالة نقدية قليلة الحدوث بهذا الحجم في مؤتمرات اليمن المحلّية، خاصة أنها ضمت ببلوغرافيا معدّة للأدباء الشباب في مجالي الشعر والسرد، من أجل توثيق الجهد العلمي والنقدي"، حسب قول الأكاديمي عبد الرحمن الصعفاني، رئيس اللجنة العلمية للمؤتمر.
وفي ورقة بعنوان "الجيل الألفيني... واقع وتجارب ورؤى"، يرى صدام نجيب الشيباني أن "تمثّلُ الواقع المعيش في شعر الجيل الجديد يختلف باختلاف الإحساس به، إذ يظهر الواقع اليمني بكل ثقله في النصوص الشعرية، كما انعكس ذلك على أدب وشعر الجيل الأول أمثال الزبيري والبردوني والحضراني وجيل الثمانينات".
يضيف الشيباني: "انعكس الواقع اليمني، كغيره من الوضع العربي العام المتأزم، على معاناة الشاعر الشاب الذي يحمل في جنباته الآمال الكبرى للخروج من هذا الوضع، يتجلى هذا الإحساس في ملامح نصية إبداعية تعكس هذا الواقع المر إلى مشاعل نصية تحمل الحزن والأمل في الوقت ذاته".
بدورها تتبعت ورقة الباحث أحمد الفراصي الموسومة بـ"التفاعل النصي في شعر ما بعد الألفية الثانية في اليمن"، العلاقات النصية التي يقيمها النص الشعري العمودي لشعراء ما بعد الألفية الثانية في اليمن مع غيره من الأنساق الشعرية العمودية السابقة والمزامنة له. حيث خلص الباحث إلى القول إن "هذا الجيل الشعري يعيش في مأزق كتابة القصيدة العمودية ويقف بسكونيته هذه على عتبة التلاشي والانطفاء إذا ما استمر في نهجه هذا".
أما ورقة "الخطاب الشعري عند الشعراء اليمنيين الشباب في مطلع الألفية الثالثة" للباحثة إيمان العذري، فقد توصلت إلى أن الخطاب الشعري في ديوان "صنعاء تحت الحرف السابع" لأنور البخيتي، نموذج دراستها، "هو خطاب واحد نابع من مقصدية ثابتة سعى الشاعر إلى تبليغها للمخاطب وإقناعه بها، وهي مقصدية لا يمكن الوصول إليها إلا بالمرور عبر أبواب صنعاء الستة التي قسم عليها الشاعر قصائده وصولاً إلى الباب السابع الذي من خلاله يتحقق الأمل المنشود بتحرير صنعاء من وضعها تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة".