بدت هذه الجولة من المفاوضات السورية في جنيف، مختلفة تماماً عن سابقاتها، لناحية الأداء الإعلامي التكتيكي السياسي لوفد المعارضة السورية، الذي أظهر نجاحاً لافتاً، تُرجم بملاحظة رمزية، لكنها معبرة، بكيفية تحول فندق "كراون بلازا"، الذي يقيم فيه وفد الهيئة العليا للمفاوضات، إلى محج يقصده جميع الصحافيين العرب والأجانب، إضافة إلى الدبلوماسيين، مقارنة بمكان إقامة وفد النظام، الذي بدا مرتبكاً في جنيف.
وربما يكون السبب في أداء المعارضة، الذي يجمع كثيرون أنه كان ناجحاً، ثلاثي الأبعاد: فمن جهة ظهرت مكونات الوفد المفاوض، بقيادته الجديدة، أكثر تفاهماً عن غيرها، وأكثر خبرة بعد تجارب الماضي. ثم ظهر كأن فئة البيروقراطيين السوريين المنشقين عن النظام، الذي رافقوا وفد المعارضة، أدّت دوراً هاماً في تقديم النصائح من خلفية معرفتها الدقيقة بآليات تفكير وعمل النظام والمتحدثين باسمه. وأخيراً، غالبية الظنّ أن التنسيق المسبق بين أعضاء الوفد المفاوض، قبل توجههم إلى سويسرا، وما قيل عن ورش عمل ضيقة نظموها قبل الذهاب إلى جنيف، والاتفاق على حصر الناطقين باسم المعارضة بعدد قليل من الأشخاص لتجنب التضارب والفوضى والتناقض، أدت مفعولها في كيفية التواصل مع الإعلاميين.
وتدارك الوفد المعارض الانطباع الأول الذي ظهر بسلوك رئيسه نصر الحريري، إثر اللقاء الأول الذي جمعه مع المبعوث الدولي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، بخروجه من مقر الأمم المتحدة بطريقة أوحت بالغضب، ومن دون إقامة أي مؤتمر صحافي. وعلمت "العربي الجديد" من مصادر داخل المعارضة السورية، أنه بعد هذه الواقعة تم التوافق سريعاً على استراتيجية جديدة، سواء مع المبعوث الأممي أو حتى إزاء الدول الداعمة للمعارضة ومبعوثيها المنتشرين في أروقة الفندق. وبحسب الاستراتيجية الجديدة، فقد تم التوافق على إفساح الفرصة للمبعوث وللدول الداعمة لبذل جهودها، والابتعاد عن الردود الانفعالية غير المدروسة التي قد تؤدي إلى نتائج عكسية، فكان القرار يقوم على وصف جميع اللقاءات بأنها "لقاءات إيجابية" من دون الخوض في التفاصيل، واعتماد لغة مهادنة مع الجميع، باستثناء إيران والنظام، وتجنب المهاترات الجانبية، فيما بدت استراتيجية ذكية أربكت وفد نظام بشار الأسد، ورئيسه بشار الجعفري، الذي استمر بخطابه الهستيري والعنيف، الذي لا يوحي بالقوة أو الحزم بقدر ما يوحي بالضعف والارتباك، الأمر الذي بدا واضحاً، في وقت لاحق، بعد أن اعتذر الجعفري عن ثلاثة مؤتمرات صحافية متتالية في مبنى الأمم المتحدة.
كما تم التوافق أيضاً على إدارة المفاوضات بسرية من دون منح حتى مبعوثي الدول الداعمة إلا بعض التفاصيل عن الاجتماعات، بما يتناسب مع خطط المعارضة، كي لا تعمد هذه الدول إلى اتخاذ إجراءات ضمن حساباتها الخاصة، قد تؤدي إلى الضرر باستراتيجيات المعارضة. ومع أن الإعلاميين الموالين للنظام تجنبوا القدوم إلى "كراون بلازا"، إلا أن رئيس الوفد المعارض، نصر الحريري، كان أكثر إيجابية في التعامل معهم. وعلى عكس أداء المعارضة في الجولات السابقة في جنيف أو أستانة، لم يكن مزاج المعارضين عدائياً ضد الإعلام الموالي. وأكثر من ذلك، ابتعد عن الاستراتيجيات السياسية الخائبة، بتقديم التطمينات التي لا توحي للطرف الآخر إلا بفداحة التهديد. وكانت توجيهات نصر الحريري، ومن خلفه الوفد المعارض، واضحة بالسماح للصحافيين الموالين للنظام بطرح الأسئلة، التي قوبلت بخطاب وطني سوري يدعو "للانتقال السياسي لتحقيق السلام وإنهاء الحرب التي أرهقت الجميع"، انطلاقاً من أن المعارضة هي "أم الصبي" لناحية محاربة الإرهاب متعدد المنابع، أكان "داعشياً" أم إيرانياً أو أسدياً. ورغم أن البعض من أوساط المعارضة لم يعجب كثيراً بالعاطفة التي قابل بها الحريري سؤال صحافي موال للنظام، الأربعاء الماضي، إلا أن الحريري نجح خلال رده، ربما، بخط خطاب سياسي مختلف تمكن من قلب الطاولة على النظام، فقدم معارضة منهمكة بالبحث عن مصلحة الشعب السوري كله، وبالتركيز على رؤية المستقبل ما بعد الحرب وخطط الإعمار، بدل أسطوانة الإرهاب التي لا يكل منها النظام الذي يمارس إرهاب دولة أنهك جميع السوريين.
وفي رده على ادعاء الإعلامي الموالي بوجود نوايا للمعارضة للضغط لإخراج "جبهة النصرة" من قائمة التنظيمات الإرهابية، قال الحريري "لو كنا نستطيع تغيير قرارات مجلس الأمن، لكننا وضعنا على لائحة الإرهاب، إضافة إلى تنظيم القاعدة ومن ينتمي إليه، العديد من المليشيات الإرهابية التي تقاتل في سورية، وعلى رأسها إرهاب الدولة، إرهاب بشار الأسد، الذي قتل حتى هذه اللحظة أكثر من 400 ألف بحسب الأمم المتحدة. لكن أنا وأنت سنعود إلى سورية، فكيف ستشرح لزوجتك لماذا قتل مليون سوري على يد إرهاب بشار الأسد والمليشيات الإيرانية التي تقاتل تحت عبارات طائفية وأسماء طائفية وعلى يد داعش والقاعدة وكل من شابههم؟ فإذا كان هناك رئيس يفكر بمصير شعبه ليترك حرية الانتقال (السياسي) لهذا الشعب، وسترى أنه لن يكون هناك وجود لأي شخص لا ينتمي للأجندة الوطنية... توقعت أن تسألني عن الانتقال السياسي وخططنا لمستقبل سورية، ولكن للأسف تسألون دائماً عن الإرهاب".
ولعب البيروقراطيون المنشقون، الذين رافقوا الوفد، دورهم من الصفوف الخلفية، من دون محاولة لعب دور سياسي ظاهر. وبعد انتهاء كل اجتماع سياسي بين مختلف الأطراف في وفد الهيئة العليا للمفاوضات، كانت تحصل لقاءات جانبية بين الوفد المفاوض والبيروقراطيين، الذين كانوا يقومون بتقديم اقتراحاتهم وآرائهم، ليبقى القرار النهائي للساسة. غير أن ضعفاً إعلامياً ظهر في قلة استثمار الكثير من الأحداث الهامة التي رافقت الجولة بما فيه الكفاية، سواء "الفيتو" الروسي على قرار العقوبات على النظام لاستخدامه السلاح الكيماوي، أو حصول الفيلم الوثائقي "الخوذ البيضاء" على جائزة الأوسكار، بينما تبقى حسابات الوفد المعارض على وسائل التواصل الاجتماعي، سواء "تويتر" أو "فيسبوك"، خاملة، وأحياناً بإدارة ذاتية من دون وجود مكاتب تشرف عليها، رغم الأهمية الكبيرة التي بدأت تكتسبها وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، كوسيلة تؤمن للسياسي إيصال رسالته بشكل سريع مع تجنب أسئلة الصحافيين.