لم تكن لتعيش أكثر من أربع وعشرين ساعة. لحسن حظّها أن الطبيب قرّر إجراء العملية الجراحية في الوقت المناسب. أرجأ موتها الذي لطالما ردّدت أنها تتمناه. وقبلَ أن تُنقل إلى غرفة العمليات، أمسكت يد ابنتها، شدّت عليها وقبّلتها.
ابنتها لم تقل شيئاً. اكتفت بالصمت. فكرت أنها لم تكن مستعدة لخسارتها بعد. لكنها لم تُطمئنها وصمتت. أمها صارت بخير. ها هي تسترخي الآن على السرير الأبيض. كان عليها أن تطرح على ابنتها ذلك السؤال: "هل كنت خائفة عليّ حقاً؟". استغربت سؤالها ولم تكن مستعدة للإجابة. كأن صوتاً في داخلها لم يكن يرغبُ في طمأنتها. حاولت الاستيضاح منها عن سبب شكّها، فأخبرتها أنها لا تثق بمشاعرها نحوها، هي التي تُدرك أن ابنتها لا تُجيد التعبير. إنه الخجل ربما.
قبلَ أشهر، صارت ابنتها أماً بدورها. كانت تعرفُ أن والدتها ستستغلّ الموقف. وهي لم تتأخّر. سألتها إن كانت قد عرفت الآن كم تُحبّها، إلا أن الإبنة اكتفت بابتسامة. ليس عليها في كل موقف أن تتذكر كمية الحب الذي تكنّه لها والدتها فتتراجع. عليها أن تغضب منها وتخاصمها وتترك البيت وتصبغ شعرها وترسم وشماً على كتفها.. ثمّ إن الحب يبرّر للأم جميع أخطائها. لكن الابنة لم ترتكب أي خطأ. كانت أشبه بصورة لفتاة معلّقة على جدار غرفة الاستقبال، دائمة الابتسام للضيوف، وأنيقة، وقد حرصت على الاحتفاظ بابتسامتها وأناقتها حتى اليوم.
تمسّد الأم شعر ابنتها، تقرأ لها قصصاً جميلة عن فارس أحلام، وفراشات تتلصّص على فصل الشتاء، ورقصات لا تثيرُ غرائز الرجال. تخبرها أنها جميلة، وأن لا أحد يستأهلها. وإن كان ذلك كذباً، فليكن. ليس الكذب خطيئة دائماً. هذا ما تفعله اليوم. تفكّر الإبنة أحياناً أن الأوان قد فات. فلا معنى لأخطائها اليوم.
جميعُ الأمهات يخطئن. لن يصرن آلهة مهما صيغت عبارات بحقهن. يتمنين في كثير من الأحيان لو أنهن لم ينجبن. شعورهنّ بالذنب لا يغفر لهن هذا الإحساس. في أعماقهن تسري أفكار أو تمنيات مخيفة. سهرُ الليل ليس تضحية بل خيار. فقبل السهر، كان الإنجاب خيارهن. ربما يسامح الأبناء أمهاتهم على أخطاءٍ لم تكن مقصودة. لكنها كالوشم، لا تزول ويضطر الأبناء إلى التعايش معها.
تعرف أنها يوماً ما، ستُقبّل جبين طفلها وتطلب منه السماح على أخطاء ارتكبتها بحقه عن غير قصد. لن تنسى أن تكرر ما كانت تقوله له دائماً: "أنت جميل وقوي. اذهب إلى عالمك ولا تنظر إلى الوراء. لا تنظر إليّ".
"هل كنتِ خائفة عليّ حقاً؟". "نعم". تتمنى أن تنطق بهذه الكلمة، لو أنها تنسى ذلك الوشم. ومعه، ليست مستعدة بعد لخسارتها.