أحياء برؤوس مقطوعة

10 مارس 2015

عمل بصري لـ(ماك بارفيلي)

+ الخط -

لا يزال صديقي يحلف أغلظ الأيمان أنه شاهد ضحايا "داعش" من العرب ينهضون بعد قطع رؤوسهم، ويعاودون السير، وكأن شيئاً لم يحدث.

بالتأكيد، لم أصدق زعم صديقي، وظننت، في البداية، أنه مخبول، أو أنه مصاب بصدمة ما بعد مشاهدة أشرطة عمليات الذبح اليومي المنتشرة على المواقع الإلكترونية. غير أنني، وبعد طول إلحاح من هذا الصديق، قررت أن أشاهد هذه الأشرطة بنفسي، لأتأكد مما يقول.

في طريقي إلى المشاهدة، تذكرت قصة للكاتب رسول حمزاتوف، ملخصها يتحدث عن ثلاثة صيادين، كانوا يطاردون ذئباً، فما كان من الذئب غير الاختباء في مغارةٍ، ذات كوّة ضيقة، وحين وصل الصيادون إلى المغارة، عمد أحدهم إلى حشر رأسه بصعوبة داخل الكوة، فعلق ولم يستطع إخراجه، وحين سحبه صديقاه إلى الخارج، فوجئا بأنه بلا رأس، ثم راحا يتساءلان بجديةٍ عما إذا كان لصديقهم رأس قبل الحادثة أم لا، ولم تسعفهما ذاكرتهما بمعرفة الحقيقة.

تابعت مسيري، لكنني، وعلى نحو مباغت، رحت أتحسس رأسي الذي لم أتحسسه منذ عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، وخمّنت، عندها، أن الذئب في حالتنا العربية الراهنة يقطن أكثر من مغارة، كلها بفتحات وكوى ضيقة، تتسع لرؤوسنا فقط. ولئن كان الحجّاج قد أجهز على رؤوس "أينعت"، وحان قطافها في زمن قديم، فإن حجاج العصر الحديث يجهز على رؤوس لم تنضج البتة، على الرغم من مرور مواسم نضوج كثيرة عليها، فبقيت محض زوائد دودية، لا يُنقص استئصالها أو يضيف بقاؤها إلى الجسد شيئاً.

حين شارفت على الوصول إلى مبتغاي، تساءلت مع أولئك الصيادين أنفسهم: هل كان للعرب الذين أوصلوا سفاحاً على غرار الحجاج إلى سدة الحكم، رؤوس فعلاً؟ إذا كان الجواب "لا"، فلماذا، إذن، لم يتعلم العرب الدرس، طوال قرون القطاف، فيمنعوا ظهور أكثر من حجاج جديد يتمثل في "داعش" وسواه؟ أما إذا كان الجواب "نعم كانت لهم رؤوس"، فذلك يعني أن الرؤوس العربية مغرمة بسيف الجلاد، إلى حد اختراعه إن غاب عنها بين موسم قطاف وآخر.

حقاً يبدو الجواب غائماً: هل كان للعرب رؤوس قبل ظهور "داعش"؟ وفي أي كهف من كهوف التاريخ علقت الرؤوس العربية، حتى استعصت على كل محاولات سحبها إلى فضاء المستقبل؟

توقفت قليلاً لالتقاط أنفاسي، وشعرت بأنني بدوت قاسياً، لكنها الحقيقة، لا سيما إذا تجرأت، وقلت إن للعرب أكثر من زائدة دودية، لا تقف عند حدود الرأس، فالقدم التي لا تخطو خطوة واحدة باتجاه العصرنة زائدة دودية، واليد التي لا تتحرك إلا للتصفيق للزعماء زائدة دودية، والأصابع التي لا تدوّن فكرة أو إضافة جديدة زائدة دودية، والفم الذي لا يتقن غير الهتاف للساسة، أو الندب واللطم والتأسي على تاريخ مثقل بقطاف الرؤوس، هو زائدة دودية، والعين التي لا ترى غير الحوائط والسقوف زائدة دودية، واللسان الذي لا يتقن غير الصمت "الأبلغ من الكلام" هو زائدة دودية.

ولو توسعت أكثر، سأقول إن الجيوش التي لا تحارب غير شعوبها زوائد دودية، والحكومات التي لا تتقن غير النهب والفساد زوائد دودية، والزعماء الذين يقدمون ثروات بلادهم وأراضيهم على طبق من "تنك" للاستعمار والاحتلال هم زوائد دودية، والخريطة التي لا تضيف مجداً إلى الكرة الأرضية زائدة دودية. وفي المحصلة يتعين أن لا نلوم غير "زوائدنا الدودية" العلوية، وهي تقترب طائعة من أي سيف مشرع لقطفها، بدءاً بالحجاج، وليس انتهاء بالأنظمة العربية و"داعش" معاً.

أما الشيء الوحيد الذي لا يعتبره العرب زائدة دودية فهو "الذيل"، وبتره يعني الموت. عندما تذكرت الذيل تحديداً توقفت، ولم أتابع مسيري لمشاهدة أشرطة قطع الرؤوس، فقد تأكد لي أن صديقي على حق.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.