أحوال "البرتقالة"

08 مارس 2016
عمل تكعيبي لـ غريس(Getty)
+ الخط -

-1-
لم يتغير أي عنصر في هذا المشهد النسوي في بلادنا، ولم تتغير اللغة المعبرة عنه كذلك.
لمّا تزل النساء يطلقن على المنظفات اسم "دوا الغسيل"، ويحتفلن بضيفاتهن بإخراج أواني الخزف وفناجين القهوة، من أعماق عسيرة من خزائنهن الخشبية، التي رسمت على طرفيها صورة متخيلة للعاشقين الخالدين "روميو وجولييت"، ليسكبن فيها القهوة المغلية طويلاً، وفي أكواب أخرى عليها صورة العاشقين إياهما، عصائر الفاكهة الممددة بالماء والمثقلة بمكعبات الثلج، ويتبادلن من بعضهن حفنات النعناع اليابس وفناجين ممتلئة بدبس الرمان، وأطباق الطعام، كما يستعرن معاطف بعضهن وحمالات الصدر...والأحذية عالية الكعب. ويضغطن راحاتهن المفتوحة على أوراكهن، حين يتعاتبن مع جاراتهن، ويستخدمن أطراف أصابعهن، بملامسة حنونة لجبين أولادهن، لجس حرارتهم.. ويتحاشين ذكر أسمائهن في الأماكن العامة، وينزوين في غرف موصدة أبوابها ليعرين جذوعهن، ويتفحصن أثداءهن بجس خفيف، كما اعتدن تفحص البندورة والباذنجان على بسطات الباعة في أسواق الخضار، ليتأكدن من جاهزيتهما للطبخ، لكن هذا الجس الاحترازي للتيقن من عدم وصول السرطان إليهما.. وما زلن يخشين ذكر اسمه، ويستدلن عليه من تصلب أرعن في محيط الثدي أو من تغير في لون الحلمتين...ويتساءلن بأصوات خافتة، أكان ينقص عذاباتنا هذه "البلوة" المنذرة؟ ترى من أين تأتي؟ أمن الزيت المستخرج من بذور القطن، أم من السردين الغارق تحت زيته، أم من الخضار المروية من مياه المجارير.. أم من مقابر النفايات النووية المجهولة الأماكن، أم من هذا "الزعل" الطويل...في إشارة للحزن الذي ينسدل كستائر غامقة أمام النوافذ المغلقة لبيوتهن الضيقة.
يقلبن من وقت لآخر صوراً فوتوغرافية بالأبيض والأسود تظهر فيها جداتهن وأمهاتهن، ويؤكدن بعدها أمراً واحداً...أن الجدات والأمهات، عشن في زمن أكثر انفتاحاً وتسامحاً وتفاؤلاً، وبعضهن يتساءل بصوت خافت، ما الذي تبقى للمرأة بعد قرن من آمال التحرر والمساواة، وكأننا نعود إلى الخلف، مجرجرات خيباتنا كما جررنا في يوم مضى أثواب زفافنا...
وتتحدث الأمهات عن ضرورة تزويج أبنائهن وبناتهن بعمر مبكر، كعلاج لحمى الطيش، التي تمزق صدورهم وسراويلهم، وتدفعهم للسهر والتدخين. ويلففنهن بأقمشة من رؤوسهن إلى كواحلهن، باسترداد لحمى الأقمطة التي تأتي مع ألبسة "الديارة" المبهجة في حمى الاستعداد للولادة.
وتحولت السبحة الافتراضية التي أطلق عليها "مسبحة الشيطان" كناية عن دورانها بين شفاه حامليها وحاملاتها إلى اللانهاية، إلى "مسبحة الرحمن" الحقيقية، منتقلة إلى شكل حداثي يعرف باسم "العدادة" الصينية، التي تضعها النساء كخاتم على العقدة الأولى من سبابتهن، كوسيلة لإظهار التقوى، ولرصد إنجازاته في آن...تتشبه بالبيع نقداً، وأصبحن يتبادلن نتائجه الرقمية، وهن يرددن أسماء الله الحسنى، ويحصين الأرقام من نظرة خاطفة إلى شاشتها الضيقة.
كأنهن استعضن بمهمتهن عن مهمات الملائكة، الذين يحملون الدفاتر الكبيرة ويراقبون الناس ليدونوا حسناتهم وسيئاتهم. فكرة كسولة جديدة ساقت المؤمنات للتباهي بإيمانهن، لا تخضع حاملاتها للامتحانات الإيمانية الشديدة، كما حصل دوماً للعديد من المؤمنات.
تغير الزمن.. وبات بإمكانهن تحديد هويات بعضهن الدينية والطائفية من لباسهن، وطرق نطقهن وأماكن سكنهن.. ليتخذنها ذريعة للتمايز والتفارق، وللمشاكسة.
أمن الضرورة تذكيرهن وتذكير من يدفعهن بحذق منهجي إلى هذه الهاوية، أنه في عام 1751 احتلت مجموعة من النساء مئذنة الجامع الكبير معيقات بذلك أداء الصلوات وصارخات بأعالي أصواتهن بشتائم ضد الوالي العثماني، لأنه لم يقم بما يخفف أعباء المجاعة التي انتشرت في المدينة، وأنه في عام 1778 تجمع عدد من النساء في فناء المحكمة، ولعنّ الأعيان بينما فر القاضي ليختبئ داخل القلعة.
أنه جرت أول مظاهرة نسائية في المدينة بعد اعتقال المجتمعين في دارة عبد الرحمن الكواكبي 1892، وسارت في "درب العربية" القريب من القلعة، واتجهت إلى دار الحكومة والبلدية، تطالب بالإفراج الفوري عن الموقوفين.
وأن مريانا مراش، شقيقة فرنسيس مراش، أول من افتتح صالوناً أدبياً في المدينة، وتبعتها حميدة الجابري، ابنة الشيخ عبد الحميد الجابري الأديب والشاعر والمتصوف وفق الطريقة الشاذلية، وبمبادرة فائقة المدرس التي أسست "مدرسة الصنائع" في حي الفرافرة، وكانت تملكها وتديرها، واستقدمت في عام 1930 الآنسة "أم كلثوم" لتغني للطالبات وأهلهن في باحتها الفسيحة. من أخمد ذاك الموقد المتصاعدة ناره ولهيبه، من أعطاف نساء أقدمن بروية على صناعة رقائق تاريخهن، كأنهن يصنعن أطباق الحلويات.
لكن هناك تغيرات، ينبغي المرور عليها، فلم تعد النساء يرفعن أكفهن إلى أفواههن حين يضحكن، كما كانت تفعل جداتهن، ربما لأنهن فقدن، منذ زمن، القدرة على الضحك.

-2-
البرتقال، من الحمضيات التي تشمل في تنصيفها الليمون واليوسفي والكريفون والبوملي والصفير والكبّاد..، والبرتقال على تنوعات تشمل كمية السائل ذي المذاق الحمضي، وحجم الثمرة، تكوين فصوصها...
تحتاج غراسه إلى مناخ دافئ، وهذا ما يفسر عدم توسعها في العمق الجغرافي لساحل بلاد الشام، الممتد من خليج إسكندرونة حتى شاطئ رفح، فلم ترتفع شجراته إلى الجبال ولم تتوسع إلى البوادي.
توسع معنى البرتقال، بعد تقسيم أرض فلسطين، ليصير من متممات شخصيتها الوطنية، وباتت تستحضر بياراته وثماره، لتأخذ معنى الحنين إلى الأراضي التي احتلها الصهاينة، بعد سرقتها وطرد أهلها.
ولكن، ما المعنى في تشبيه المرأة بالبرتقالة، في الأغنية التي فاض ترويجها إلى ملايين النسخ...وهي من ارتبط اسمها، بأثر من النفوذ البيّن للأديان الإبراهيمية بالتفاحة.... وبواحدة من أخطر الولائم في التاريخ السماوي، ولم تك سوى قضمة مفردة، أعقبتها كارثة الطرد الحاسم من الجنة.
ربما لأن الأمر بات يحتاج في البرتقالة إلى التقشير، أي نزع اللحاء أو اللباس...كرغبة في التعرية، تعرية الإذلال، المندفعة بإعلاء قيم التوظيف الاستعمالي، المؤسس على تناقض دلالي بين احتقار المرأة وسلبها كينونتها، والرغبة في جسدها العاري. لما تزل النساء يتكتمن عن الإفصاح عن أسماء أزواجهن، أمام الطبيبات اللواتي يعالجهن من جروحهن وحروقهن في المشافي، كما أن تتكتم الأصغر سناً عمن اعتدى عليهن وأفقدهن عذريتهن، وتتكتم أخريات عمن يتحرش بهن في أماكن عملهن، وعمن يبتزهن في لقمتهن وحياتهن.
لكن، هناك تغيرات، ينبغي التمهل عندها، فلم يعد أحد يئد بناته فور ولادتهن، كما كان يفعل بعض الآباء في العصر الجاهلي، أمسوا يتمهلون على هذا الوأد لسنوات، ولم يعودوا يئدونهن كذلك تحت التراب.

(حلب، شباط 2016)
دلالات
المساهمون