"ولدتَ في يومٍ عاصفٍ يا أحمد، أكلت فيه الريح جدران دمشق، وأشجارها"؛ كانت تُردّد أمي واصفةَ ليلة ولادتي، لترتسم العاصفة بطريقة شاعريّة في مخيّلتي البِكر؛ امرأة في مخاضها، ورجلٌ يفتش عن سيارةٍ تقلّهم إلى "مشفى تشرين العسكري"، حيث بسكينٍ تُمزّقُ بطن الأم، فأخرج؛ ثم وبعد عقدين يُضاف للمشهد شاعرٌ يمشي في تلك الليلة، ويكتب قصيدة طويلة، تخرج من سطورها ريح العاصفة القديمة لتلمس وجهي، وأشجار دمشق التي هوت، سأعثرُ عليها وقد صارت مراكب تطفو في قدح عرقه.
بجسده النحيل وتقوّس ظهره الذي لمسته، وهو ينزل درج قبو حميم في دمشق، حيث التقيته مرةً أولى وأخيرة؛ رمى فيها أحمد عبد الكريم ونوس نحوي ديوانه "طحين الدم"... ويا للمصادفة، نبوءة شعريّة تلقفتها، معنى وجدوى لتذيّل القصائد بتواريخ كتابتها؛ تاريخ العاصفة وتاريخ ميلادي: "مرّ أيها الشاعر/ مرّ ولا تنتبه/ إن شئت اصرخ/ أو اصمت/ تقيّأهم كالأنخاب الرديئة/ إنهم محايدون كحجارة الرصيف/ إنهم أغبى من الزجاج".
هكذا كتب وهكذا مرّ أحمد ونوس، المولود في قرية "دير ماما" السورية. قيمةٌ شعريّة عالية دُفنت كحبَّة كستناء في ظلّ النّسيان، ورطوبة أقبية وغرف دمشق العشوائيّة؛ كيف لا؟! وهو الشّاعر الذي عاش حياته كقصيدة طويلة، دون أن يأخذ بنصيحة "أوسكار وايلد" بأن "على المبدع أن يكون نصفه تاجراً".
أحمد المجهول لم يشتر شيئاً، ولم يبع إلا غُرف بيته في دمشق، غرفةَ غرفة، ليشتري سعادةً خاطفة كالبرق له، وللكثير من الأسماء الشابة التي منحها المأوى حيناً، ونصوصاً أحياناً: "الله خلق الأحمر والأبيض/ خلق الأرض، وأعطاها للجميع/ لقد كنت دائماً أفسح مكاناً بجانبي/ لأخي الأبيض""وهبناك قلباً طرياً/ فهل أحببت؟!/ وعينين جميلتين/ فهل رأيت؟!/ وجسداً رائعاً/ فهل وهبت"؛ هذه القصيدة القصيرة التي افتتح بها ونوس ديوانه "أصوات من خيمة هندي أحمر" (1991) ستشكّل بيانه الحياتي والشعري، ثلاث أقدام يركض بها في حياته وقصيدته: الحب، والانشغال بالجمال، ثم الجسد بما يفترضه من رغبةٍ ووَهْب.
ساق الحب
في الحب نقرأ نداء المحبوبة فيذهب أحمد إليها شعراً وكياناً: " كان الشتاء يحزنها/فتغني بصمت: قيثاراتي ضاعت/ على أي صوتٍ سينام حبيبي؟/ الثلج ينمو على الأريكة/ وأزهاري ذبلت من البرد/ لن تأتي إلى شرفتي القُبرات/ شفاهي ذابلة/ من سيقبل حبيبي؟/ذراعي ترتجفان وصدري بارد/ أين سيضع حبيبي رأسه؟/ الظلام حالك والسماء تثلج/ هل ثمة طريق/ يأتي منه حبيبي؟".
في الحب أيضاً يفتح نوافذه كلها، ويُصيّرها شأناً عاماً، حقاً لكلّ النّاس، كالخبز يومي وضروري ومعيشي، وبلغته الطيّعة بين يديه، تنقل أحمد بخفة الفَرَاش من سُريّالية لغته، وصورها الحديثة المبتكرة في معمله الخاص، إلى لغةٍ صُوفيّة عالية، تستدعي الموروث الشعري، والتراث الصوفي الذي لم يكُن غريباً عنه، بل مقيماً فيه:
"جاءت بروقٌ أبرقتني/ وأتت رعودٌ أرعدتني/ فاضت صحائف شوقنا/ ورداً من النور المشع/ وسلسلت من صفوها صفواً/ فأخلج خاطري/ كجنح في مهب الحب/ آن غرقت/ آن بُعثت/ ضمّني/ اقرأ/ قرأت عليك عشق الناس/ كل الناس/ ضمّني/ اقرأ/ قرأت عليك خبز الناس/ عشق الناس".
رغم قلبه الطّري، الطّريد، والحُبّ الذي كان قوْته اليومي، لم يفلح بالبقاء على ذمّة أنثى، مثله مثل سعادةٍ اشترط حضورها مقرونةً بحريّتها، مُحيلاً إياها لأنثى من هواء تُشم ولا تلمس: "أتدري/ بأن السعادة أنثى؟/ قد لا تكون عذراء/ لكنها ليست على ذمة أحد". ورغم وهبه الشعر والحب والأغاني لزوجاته والحبيبات، سينتهي حراً ووحيداً كلحظة خلقه: "ذهب صهيلي هباءً/ فالأفراس توظفت".
ساق الجمال
باكراً يراقب الشّاعر غياب الجمال البسيط، البديهي، البدائي، عن الإنسان الحديث، متخذاً لنفسه نمط الإنسان الأول، البري؛ الوحشي؛ الفطري؛ الغجري، معيداً في صيغ شعريّة غاية في البساطة والدهشة، أسئلة إنسان الكهف، إذ رفع رأسه وتأمل النجوم، ليدخل في عصر أسهل وأعقد الأسئلة حول وجوده: " أتدري/ بأن سقف العالم/ هو قطعة جليد في كأس؟/ أتدري/ بأن السماء زرقاء/ متى رأيت القمر لآخر مرة؟".
أحمد لن يوقع معاهدة صلحٍ مع المدنيّة، التي عاشها في كتلة إسمنتٍ كبيرة كدمشق، حيث خالط قاعها، مُساكناً كائناتها الغرائزيّة؛ بل سيبقى نداء الإنسان الحُرّ الذي يركض مثل خيولٍ في سهوبٍ فسيحة، يصهل في روحه، رفضاً لـ"الحضارة" إذا تعارضت مع الحب والعفوية: "ارقص الآن/ بعيداً/ وانطلق بانعتاق/ إلى الناس والحب/ لن تموت الحضارة/ إن عاش رقصك/ أيها الرجل الأول/ واضرب الأرض/ أيها البدائي/ إن إناث الخيول/ تنام دون ثياب/ والآيائل ترقص في السهب/ بدون طبول".
ولأن الكلمة توأم الجمال وشريكه، وهو الشاعر الممتهن لحرفة نحت الجمال، صابراً، متصبباً عرقاً في انزوائه بالكلمة، يُدون أحمد تميمةً تمنع غياب القوة والجمال عن شعره: "إن كان ثمة كلمات لائقة تقال/ فسوف أضعها في أقفاص/ كالخنازير البرية/ والزنابق اللاحمة/ إن لم يعد ثمة كلمات/ بأعضاء بارزة/ فلأننا نسينا أشدّ الأشياء عفوية".
ساق الجسد
الجسد الواهب، الماجن، القدّيس المتأهّب لصلاةٍ شبقة، مُعيدُ الصلصال إلى خشونته، ومذري الحجر إلى غباره؛ جسده الحاضر بقوةٍ في شعره، وبفعلٍ جنسيٍّ يصيب الزمن بالشّلل، تماهياً مع القراءة الفلسفية للنشوة، وهي الغرق في اللحظة الواقعة، بانعتاقٍ كاملٍ من ثقل الماضي وشبح الغد: "خمرة عنقك/ تترقرق في خليج ساعدي/ آه يا خيول أيار/ في وتر قوس اللذات المشدود../ الزمن/ توقف عند شفتيها/ والجسد/ قنبلة موقوتة/ للحظة نهوض الردفين".
ولا يحضر جسد الأنثى في قصيدة ونوس، إلا وهو يجرُّ خلفه غاباتٍ وأشجارٍ ونباتاتٍ، وحيواناتٍ موغلة في البريّة والبراءة، معيداً تشكيل كل تفصيلٍ من جسد الشّريك على مقاس خيال الشاعر: "غابة الصنوبر/ في سرّة حبيبتي/ افترستها/ أرانب أصابعي" و"أشم من إبطك/ رائحة الشاي الناعس". لكن جسد ونوس يصاب بالحرمان حيناً ويُصطاد بفخاخ الضجر أحياناً: "أفعى يفترسها الملل".
الصُّوفيُّ/ البوهيميُّ/ الشّريد
لا أثر لأحمد عبد الكريم ونوس على محرك البحث "غوغل"، ولا حضور له أو لقصيدته في ثورة الاتصالات، هو ما زال يعيش حقيقته البوهيميّة، واهباً حياته للقصيدة حتى لو اختارت له أقسى المصائر، كمقتل شقيقه في موجة العنف الأولى، التي ضربت سورية في ثمانينيات القرن الماضي، ليكتب عنه: " تصافحني سُّلامياتكَ الخرساء".
رافق الشاعر "مظفر النواب"، وصادقه طيلة فترة وجود الأخير في دمشق، وأعد عن الموسيقى في شعره وعن سيرته دراسةً طويلة في كتابٍ لم ينشر، مثل مجموعات شعرية كثيرة، وعدد من الروايات، والدراسات في القصة والرواية، والتي جميعها لم تعرف طريقاً للطبع، لدرجة أنه عَرض مراتٍ كثيرة أن تحمل كتبه اسم أي شخصٍ يتبرع بطباعتها، وبعضٌ من نتاجه الشعري تعرض لسرقاتٍ "لا أدبية"، أمام ضحكات أحمد؛ وهل تسرق الأرواح؟!.
نجت من هذه المحرقة ثلاث مجموعات فقط، أخرجها بطبعاتٍ خاصة، وبأغلفةٍ رديئة تُشبه كُراسات التلاميذ، وبأعدادٍ محدودة وزعها على من أحب وهي: "أين النهر يا رائحة القصب"، "أصوات من خيمة هندي أحمر"، و "طحين الدم".
ليس لأحمد عبد الكريم ونوس عنوانٌ، ولا رقم هاتف، ولا صندوق بريد، رجلٌ فُقد أثره قبل الحرب السوريّة، فكيف تعثُر عليه داخلها؟ آخر ما وصل من أخباره، إقامته في خيمة نزوح بمدينته الأم طرطوس، منسيّاً ومخذولاً من جميع الرفقة، تماماً مثل جملةٍ شعريّة كتبها يوم العاصفة القديمة: "أنا فرخ نورس بلا ريش/ نسيته أمه/ في عشٍّ من المسامير".