في الوقت الذي يقرّ فيه الفنان التشكيلي أحمد نعواش بخوفه من الوحدة، ما جعل هاجس الجماعة - سواء أكانت عائلة أو مجموعة ثوّار أو عُصبة من ذوي الأجساد المتلوّية والوجوه المتباينة - مهيمناً على لوحاته، فإنه يتحفّظ في هذه الأيام، التي تجاوز فيها الثمانين عاماً، على مشاركة ذكرياته مع الغرباء.
في بيته الحميم، في منطقة ناعور- ضواحي عمّان، يجلس نعواش بثوبه الأسود على أريكة ذات حوافّ خشبية، بجانب نافذة تطلّ على حاكورته الواسعة. ينظر إلى الخارج، نحو الفراغ أمامه، أكثر ممّا ينظر في عين محدّثه.
يرحّب بضيفه، ثم يلوذ إلى صمت مطبق، تتخلّله بعض الإجابات المقتضبة عن رحلته الفنية، التي بدأت منذ مطلع الستينيات، بينما كانت خطوطه الأولى في عمر السابعة، حين كان طفلاً في قرية عين كارم غربيّ القدس؛ فرسمَ صلاح الدين الأيوبي وسط لوحة يهمين عليها اخضرار القرية التي توصف بأنها واحدة من الجنائن المحيطة بالقدس.
تعاقبت الأعوام، وارتحل نعواش، عقب النكبة الفلسطينية، إلى أريحا فالسلط فعمّان، ثم أبعد أكثر؛ إلى روما ثم باريس، ليعود لرسم اللوحة ذاتها من جديد، بمنهجية استفاد فيها من الأدوات التي تلقّاها أكاديمياً في ترحاله، فظهر وجهان صغيران من خوذة صلاح الدين، الذي يدير ظهره للمتلقّي.
يرفع الشيخ الفنان ثوبه الأسود وينزل معك الدرجات المفضية إلى مرسمه، أسفل البيت. يصحبك في رحلة طويلة تصل ذروتها في الستينيات والسبعينيات، بألوان حارة مركّزة، ليمضي بك نحو الثمانينيات فالتسعينيات، حيث الألوان باتت أكثر هدوءاً وأقل قتامة.
كان ضرار، الابن الأصغر لنعواش، قد عمِل على تهيئة بيئة فنية متكاملة لوالده؛ فظَهَرت الردهة أقرب إلى غاليري منها إلى ورشة رسم. الإضاءات الذهبية الصغيرة مسلّطة على اللوحات المعلّقة على الجدران البيضاء، وثمة طاولة جانبية، موضوعة كقطعة ديكور، تتوسّطها ألوان الفنان وأدواته، فيما طاولة أخرى مغطّاة بمتعلقات الفنان من تحف ولوحات تعريفية كانت تتوسّط مكاتبه في الجامعات التي درّس في كليّات فنونها.
ثمة غرفة أخرى ملاصقة لصالة العرض المنزلية، تمتلئ بالرفوف الخشبية الضخمة، التي تضمّ عشرات اللوحات لنعواش.
الأجساد التي تعيش في لوحات الردهة في المراحل الزمنية كلها وحتى آخر لوحة رسمَها عام 2012، مرنة وسهلة التلوّي، وذات رأسين وأكثر، ومركّبة على أجساد حيوانية أحياناً، وبملامح بريئة تارة، وخبيثة تارة أخرى، وبحضور متساوٍ لكلا الجنسين، وبانتحال لشخصية المهرّج أحياناً، وبنزعة طفولية ظاهرة، حتى يحار المتلقّي في حجم البساطة التي قد تكون خادعة إذا ما قيست بعُمق الفكرة التي تتناولها.
لا يبدو نعواش، الذي تتلمذ على يد فرانكو جنتليني وجورج راييز ومارينو ماتساكوراتي الذي ربط منهجيته بالفنان الألماني بول كلي، معنياً كثيراً بتقديم رمزيات سهلة التفسير للمتلقي، وهو ما يظهر جلياً على تعاطيه مع من يستفسر منه عن لوحة بعينها.
يكتفي حينها بالإيماء برأسه من دون إبداء تعليق، مفسِحاً المجال للناظر بتلقي اللوحة بالطريقة التي يريد، من دون توجيهه حتى ضمن سياق معين، ما يفسّر أيضاً الحضور غير التقليدي للعلم الفلسطيني أو البندقية في بعض لوحاته، والتي قد تُفهَم ضمن سياق جمالي لا سياسي وحسب.
يقول نعواش "أعدّ وجيلي مؤسّسين للمشهد التشكيلي الفلسطيني. لا يمكن إغفال الفنان إسماعيل شموط، الذي أوصل فلسطين إلى العالم، وإن كانت منهجية تعبيرنا مختلفة بشكل ظاهر"، متابعاً "كذلك كمال بُلاّطه وتمام الأكحل وعبد الحيّ مسلّم وغيرهم. حاول كل منا التعبير وفقاً لما يراه مناسباً له، غير أن إيصال صوت فلسطين كان هاجسنا الأكبر جميعاً".
تساءل مدير "المركز الثقافي الفرنسي" في عمّان، نويل فافريليير، ذات مرة إن كان سيأتي يوم يُقال فيه إنّ فناناً ما "نعواشي"، مثلما يُقال عن أحدهم "سوريالي" مثلاً.
عن تجربته وكيف وضع لنفسه سياقاً فنياً مغايراً، يرى نعواش، الذي حصل على شهادة البكالوريوس من أكاديمية الفنون الجميلة في روما عام 1964، بأنّ ثمة عوامل ثلاثة لا بد من توافرها لدى الفنان، أياً كانت المدرسة التي ينتمي إليها، وهي"الصدق والتلقائية والإحساس العالي"، ليخرج بأعمال فنية "لا تحتكم إلى معيار الناقد ولا توقعاته، ولا إملاءات أساتذة الفنون وقوالبهم الجاهزة، ولا حتى طموحات الفنان ورؤاه المسبقة.. لا بد أن تأتي النتيجة مفاجئة حتى للرسام نفسه".
ينفي نعواش أن يكون للفنان الغربي أفضلية على العربي، بغضّ النظر عن البون الشاسع بين الإمكانيات المتوفرة لكل منهما وحجم الاحتفاء المختلف تماماً. يقول "لدينا رصيد خانق من الشجن بسبب الأوطان الجريحة، ما يجعل لوحات الفنان هنا تتخبّط في الألم. في مقابل حالة من الصفاء والهدوء تظهر على لوحاتك حين ترسم في تلك البلاد، وإن كان هاجس الوجع لا يفارقك هنا أو هناك".
يستذكر نعواش لحظات عدة لم يملك حيالها سوى الرسم، كما حدث حين رفض بروفيسور يهودي في باريس إدخاله لمختبر الفنون الذي يتواجد فيه عدد من الفنانين اليهود؛ لمجرد أنه فلسطيني. يقول "تنطق لوحاتي بمواقفي. المآسي التي مررت بها، كما شعبي، أكبر من أن تسعها الكلمات، لذا جاء الرسم ملاذاً لي حين كنت أعجز عن التعليق أو التصرّف".
يجد نعواش، الذي حصل على شهادة عليا في الحفر على الحجر والزنك من كلية الفنون الجميلة في بوردو الفرنسية عام 1970 ومن ثم كلية الفنون الجميلة في باريس، صعوبة في تذكّر كبار الشخصيات العربية والأجنبية التي اقتنت لوحاته، وعشرات المعارض التي أقامها في مختلف بلدان العالم. يقول "بيد أني أظن أن كثيراً منها رُسِم وعُرِض واقتُنيَ في فرنسا".
وفقاً لابنه ضرار، فإن نعواش شارك في عشرات المعارض، من بينها اثنان في روما، في عامي 1960 و1964، ومعرض في بغداد في عام 1967 وآخر في دمشق سنة 1968، وواحد في قاعة اليونيسكو عام 1978، عدا عن معارض أخرى في مدن فرنسية وأوروبية وخليجية، إضافة إلى شمال أفريقيا، وكذلك عمّان.
زارت "العربي الجديد" نعواش منذ أسابيع قبل بداية الانتفاضة الفلسطينية الحالية في القدس. المفارقة أن الفنان الذي يعكف على ترميم بعض لوحاته وإتمام بعضها الآخر، بقدر ما تسمح صحته، قرّر قبل أسابيع أن يرمم عملاً بعنوان "الانتفاضة" أنجزه عام 1988. تقول زوجته أم موسى "استيقظت في الخامسة من فجر الليلة الماضية، لأجد زوجي قد تسلّل إلى مرسمه ونحن نيام. كان يطيل النظر في لوحة الانتفاضة ويتفقّد كل سنتيمتر فيها".
قليلة هي العبارات الطويلة التي يقدّمها نعواش، كأنما هو ما يزال على منهجيته القديمة في التعبير عن ذاته من خلال اللوحة أكثر من اللغة، غير أن كلمات بعينها لا تنفكّ تتكرر طوال جلوسك معه.. "عين كارم"، "الصدق"، "تفاعل حسّي"، "تلقائية"..