يدور الكلام منذ الثمانينيات حول "التسليع الثقافي"، الذي تطوّر إلى "التصنيع الثقافي". لكن لماذا لا يعرف العرب إلا "استهلاك المفاهيم"؟ من هنا نبدأ، بسؤال يصيب جوهر المرض، كما يبيّن سراج. فنحن أمة ترفض كل جديد وتحاربه، حتى إذا استقر، سارعنا إلى الفتات أو إلى مقعد المتفرّج المستهلِك.
إنها الحالة التي نتخبّط فيها، يقول سراج، مُضيفاً: إننا نعاني من أنماط التقليد، بينما العالم يتطوّر بأسرع ممّا نتخيّل. وإنْ لم نتدارك هذا الأمر، فقد ينظر إلينا العالم قريباً كأننا مخلوقات من الماضي. الخبراء تلدهم التجربة، والخبرة ابنة الممارسة، وإحراز تقدم أو كسب خسارة يقتضي خوض "جول" (جولات).
أما مسألة النشر الإلكتروني، فتحتاج إلى إدارة بشكل مهني محترف. وفي هذا السياق، يشير الباحث إلى أن شركة "أمازون" استحوذت، منذ سنوات، على القارئ الألماني لأنها قدّمت له جهاز القارئ الرخيص ومتجر البيع، فتعاون الناشرون الألمان في حدود الهدف: عدم فقدان القارئ الألماني. ومنذ ثمانية أشهر أصبح لديهم جهاز للقراءة، واستطاعت دور النشر الإلكترونية المواجَهة داخليّاً، والمنافَسة خارجيًاً. فالأهداف مصابيح، والمعايير هي علامات الطريق.
الدول تتسابق في تطوير الوسائط الجديدة، وقد تساهم الظروف الاقتصادية والتطورات العلمية في دفع أي بلد لتقديم نصيب في مقادير كعكة التطوّر الجديدة. ويرى سراج أن المسألة لم تعد كعكة، بل نمط حياة وأسلوباً في مواجهة المشكلات. فعندما حدثت الأزمة المالية، اتُخذ قرارٌ بتنمية الصناعات الثقافية، وتسويق المنتجات عبر الإنترنت.
والنتيجة أن أصبح الاقتصاد الإبداعي أكثر ثباتاً وتضاعفت صادراته عالمياً من 2002 إلى 2009 لتصل إلى 712 مليار دولار، وبلغت القيمة المالية لاقتصاد الإبداع 3 تريليونات دولار في 2005، ثم 4 تريليونات في 2007 فـ7 تريليونات في 2009، بمعدل نمو 8% سنوياً.
ويؤكّد سراج أن الصناعات الثقافية تمثل الآن 10% من اقتصاد العالم، والفرق لم يعد بين دولة وأخرى. ففي حين بلغت حصة الصين من 2002 إلى 2008 21.6% من السوق الدولية، بلغت حصة أميركا 8.4%، علماً أن "أمازون" الإلكترونية حققت 40 مليار دولار دخلاً سنوياً في 2011، وتسعى إلى تحقيق 100 مليار بحلول 2015.
وعلى المستوى التقني، لا بد من احترام المعايير المتّفق عليها عالمياً لأن الخدمة تصل إلى الجميع في الوقت نفسه. ولو دقق المرء لوجد أن الشركات الأميركية لها مصانع في الصين وكوريا الجنوبية، أما مراكز صيانتها ففي بلاد ثانية، ومراكز التوزيع في بلاد ثالثة، والمواد التي تعمل عليها تُجمّع من بلاد متفرقة، وهو مبدأ الصناعات الثقافية: "ليربح الجميع، وأولهم أنا".
كيف ندخل، إذاً، سوق النشر الإلكتروني ومشكلة التوزيع أهم مشكلة تعاني منها دور النشر العربية، علماً أن العالم قد وضع لها حلولاً وحدوداً للقضاء على "مخزون الكتب"؟ يوضّح سراج: وإنْ نُشرت الكتب إلكترونياً فربما لا تبيع، لأن مشكلة التوزيع ناتجة عن عدة عوامل: أولاً، إننا نطبع دون دراسة لاحتياجات السوق وقدرة استيعابه مالياً وكمياً. ثانياً، الموظف يقوم بكل شيء ويعمل من دون دافع. ثالثاً، مسألة عدم الجودة في محتوى الكتاب أو طباعته أو نشره. رابعاً، غياب التنسيق، حيث نجد الكتاب مطبوعاً من أكثر من جهة في الوقت نفسه.
المشكلة، إذاً، ليست في المخزون فقط، وفقاً لسراج، فالمخزون نتيجة، ويُفترض أن تكون له نسب محددة يجب عدم تخطّيها. المشكلة في المنبع، إذ لا يوجد توصيف وظيفي ولا مهام، ولا معايير لشاغل الوظيفة. ماذا سيفعل كنس المخزون ونحن نطبع جزافاً، للترضية أو لإسكات المعارضين أو لمكافأة التابعين؟ لا نرى القاعدة الجوهرية لصنّاع النشر: "المحتوى الجيد هو المَلك".
لكن كيف تطبع دار نشر كبيرة الكتاب ورقياً، ثم تضع على شبكة الإنترنت نسخة إلكترونية منه مجاناً، في اليوم نفسه؟ ماذا ستربح؟ معضلة قد نراها غريبة، لكن يوضّح سراج، لو عندنا قارئ يألف الورق ولم يعلم بصدور الكتاب، فوجود النسخة المصوّرة هو إعلان يستحثّه لشراء النسخة المطبوعة.
ثم إن وضْع الدار للكتاب على موقعها يعني زيادة في زيارة الموقع، ما يمكّنها من كسب إعلانات أكثر، إضافة إلى الدعاية. وللنسخة المصوّرة قراء، وللمطبوعة قراء آخرون.
وفي حال كانت الدار تابعة لمؤسسة فهي ستضيف رواتب العاملين إلى مصاريفها، أيّ تخفّض الضرائب، وتستزيد الدعاية، علاوة على المكاسب غير المرصودة. ويرى سراج أن النشر الإلكتروني يرفع الطلب على الكتب الورقية، وهناك دور تقوم بالنشر الإلكتروني فقط، ولو رغب قارئ في شراء الكتاب مطبوعاً، تطبع له نسخة عبر عملية محددة ومعروفة.
لدى المتشائمين سؤال: هل أوشك الكتاب الورقيّ على أن يكون سلعة ماضوية؟ يجيب سراج: العالم يتسع لكل لون، وسيبقى الكتاب الورقي، بطبعاته الشعبية والفاخرة، إذ لم يعد العالم يراه من زاوية صراع، بل من زاوية تكامل. أما عن زيادة القراء، فهناك كتب باعت ملايين النسخ إلكترونياً. وماذا لو بحثنا عن كتاب ورقيّ نافد أو يصعب شحنه؟ نكتب اسمه في محرك البحث ونراه أمامنا مجاناً أو بسعر أقل من المطبوع.
المشكلة في عالمنا العربي أن شبكات التجارة بالكتب الرقمية لا تتابع تطورات العالم أو حتّى تقلّد بسذاجة، مع أنه بمقدورها خلق سوق جديدة وقراء جدد.
وينير الباحث هذه النقطة بقوله: هناك شركات دخلت السوق وأعطت الناشرين والقراء انطباعاً سلبياً؛ فقد أخذت الكتب من الناشرين بحجّة نشرها رقميّاً، ولم تردّ لهم شيئاً. كما توقّع القراء منها خدمة قريبة من الخدمات العالمية، وخاب أملهم.
لكن الأمر طبيعي في البداية، إذ لا بدّ من هواة وحواة في كلّ صناعة إلى أن يفرض الاستمرار نوعاً من الاحتراف. يجب تحديد الهدف، سبب الدخول، وقدر الاحتياج في السوق، وبناءً على ذلك نقرّر أنواع الكتب والمؤلفين ونبني هيكلاً يسمح بالتطوّر.