هجّر أحمد الإفرنجي، ثم وجد نفسه غائباً طوال عقود يبحث عن لقمة عيشه، لكنّ حنينه الدائم إلى فلسطين أعاده ودفعه إلى توثيق ما كانت عليه منطقته النقب.
داخل منزل بدوي بسيط تملأه الصور واللوحات القديمة في صحراء النقب الفلسطينية، يروي أحمد الإفرنجي (77 عاماً) حكاية توثيقه معالم الحياة البدوية بمختلف نواحيها في هذه المنطقة بالذات.
أحمد حسن جمعة الإفرنجي من مواليد 1939 في وادي البهاء، الواقعة في منطقة النقب قضاء بئر السبع جنوب فلسطين التاريخية. يحمل في ذهنه حتى اللحظة تاريخ فلسطين ما قبل النكبة القديمة، ويعمل منذ زمن في توثيق ذلك التاريخ، خصوصاً ما يتعلق بالقبائل البدوية في جنوب فلسطين.
في أحد الكتاتيب، بدأ دراسته، واستكمل تعليمه ابتداء من الصف الرابع الابتدائي في مدرسة بئر السبع الأميرية التي كانت آخر ما عاشه في وادي البهاء.
يصف الإفرنجي لـ"العربي الجديد"، منطقة بئر السبع، بأنها مدينة صغيرة فيها شارع رئيسي آت من غزة. فيها حرج ومقبرة ومدرسة بئر السبع الأميرية. بعد النكبة وهجوم الجماعات الصهيونية، بدأت حالة طوارئ في المنطقة، لكن سرعان ما هجّر السكان الفلسطينيون. أحرقت الجماعات الصهيونية قمح القبائل البدوية في منطقة طبيش التي تبعد كيلومترين عن أراضيهم في الجنوب.
يقول الإفرنجي: "قبل يوم من تهجيرنا دخلت علينا دبابات وقوات، وبدأت الاشتباك معنا، وهددتنا في اليوم التالي إن عادوا سيقتلوننا، ولم يكن لنا إلا أن نغادر منطقة شرق البريج، ونصبنا بيوت الشَعر فيها". انتقلوا بعدها إلى منطقة جحر الديك، ومن بعدها إلى عدة مناطق في سيناء المصرية. لكنّهم تركوا سيناء بعد ذلك إلى غزة.
أكمل الإفرنجي دراسته في غزة، وانتقل إلى مدينة الإسكندرية المصرية لدراسة المرحلة الجامعية في كلية الآداب قسم الجغرافيا. عاد إلى غزة ودرّس مادة الجغرافيا حتى عام 1964. سافر فيها إلى قطر ليعمل مدرّساً للمرحلة الإعدادية. عاد مجدداً إلى غزة وتزوج عام 1966، ثم غادر إلى قطر هذه المرة كمدرّس ثانوي. وكان من ضمن طلابه أبناء من العائلة المالكة في قطر وآخرون باتوا مسؤولين بارزين حاليين وسابقين.
كان الإفرنجي يفكر طوال وجوده في قطر بفلسطين كقضية وذكريات طفولة. يقص على التلاميذ قصصه وذكريات بلده وينطق بحلم العودة. وبعد 27 عاماً من التدريس هناك عاد إلى فلسطين عقب اتفاق أوسلو عام 1993، وتحديداً إلى غزة. ليزور من بعدها بئر السبع. هناك رافقه رجل من عائلة الصناع، وهو من عائلة بدوية من الداخل الفلسطيني. شاهد البيوت القديمة التي لم يتبق منها إلا حجارة، ووجد مكان المدرسة التي دمرت خلال النكبة مع ما تبقى من حجارتها المعروفة باسم "الخليل القدسي". وقف على أطلال منزل أهله. وهنا بدأت فكرة توثيق هذه الرحلة، وتسجيلها في كتاب عنونه باسم "عودة إلى الجذور- وادي البهاء".
عام 1995، عاد الإفرنجي بشكل نهائي إلى وطنه، وإلى منزل والده في غزة، وبدأ يخطط للمّ شمل كلّ القبائل البدوية. زار بئر السبع مجدداً، وعندما خطت قدماه المدينة بدأ يتذكر كلّ طفولته، وشوارع البلدات وأماكن تواجد المدرسة والمستشفى والقبائل، وصورها بعدسته.
بدأ كتابه بوصف لبلدته على الخريطة، مشيراً إلى البيوت التي هدمت بأسماء أصحابها. كما وصف الحياة البدوية باعتمادها على الحيوانات وبيوت الشعر الأصلية والزرع. وأشار إلى المعالم البارزة في المكان، بأسلوب أدبي. كما درس منطقة النقب من الناحيتين الجغرافية والتاريخية.
يقول: "النقب تساوي 46.6 في المائة من مساحة فلسطين. أهميتها تكمن في أنها ممر أساسي يربط بين آسيا وأفريقيا. كانت ممراً للتجارة في القدم، عدا عن أهميتها في زراعة القمح والشعير والذرة الرفيعة". ينوه إلى كثرة الإنتاج في منطقته بالرغم من اعتبارها شبه صحراوية. حتى أنّها كانت تصدّر الحبوب إلى بريطانيا في بعض السنوات، كما يقول.
جمع الإفرنجي أصول جميع القبائل البدوية في النقب ورقع انتشارها. وهي ثماني قبائل رئيسية، هي التياها، والترابين والعزازمة، والحناجرة، والنصيرات، والجبيرات، والحيوات، والسعيديين. تتوزع هذه القبائل في مختلف أنحاء فلسطين، خصوصاً في النقب والبحر الميت وغيرهما من المناطق الرئيسية.
مع ذلك، يلاحظ الإفرنجي تقصيراً كبيراً في تأريخ فلسطين، لا يقتصر على أبناء الجيل الحالي بل يعود إلى أبناء جيله. يبرر ذلك أنّ الكثيرين لم يعرفوا فلسطين قبل النكبة. ويشير إلى أنّ أبناء الداخل الفلسطيني انتبهوا إلى عملية التوثيق التاريخي لفلسطين، وهناك من استعان باستشارته هو بالذات لكي يوثق ما جمع ويعاين المكان للبحث أكثر.