تنقل رحلة الكاتب المصري أحمد أفندي سمير إلى دمشق عام 1890 صورة لمدينة دمشق في واحدة من فتراتها الحالكة، فالبيروقراطية العثمانية كانت قد وصلت إلى مأزقها الكبير، والوباء كان يقرع الأبواب ويهدد أرواح الآلاف.
وتتميز هذه الرحلة المسماة "سفير السلام في بيروت والشام"، بأنها تعقد المقارنات بين أوضاع مصر المزدهرة في ذلك الوقت، وأوضاع بلاد الشام المتدهورة، والسبب كما هو واضح عدم استقرار الولاة في مناصبهم، بعكس مصر التي ضمن استقرار حكمها في أسرة محمد علي لها مكاناً في طريق التقدم.
غير أن الرجل لم يكن منصفاً بل كان إلى حد ما متعصباً لبلده، فزاد عيار نقده لبلاد الشام نقداً غير حيادي، ولم يدرك روح الفكاهة التي كان البعض يمازحه بها، ومنها تساؤله عن سبب أكل الثمار الفجة، والمقصود هنا الجانرك والعوجة، فقيل له إنهم يأكلونها فجة خشية سرقتها ليلاً! وغير ذلك من مواقف تنم عن سوء فهم قاده إلى تبني مواقف متشنجة إلى حد ما.. ومع ذلك فهي شهادة ثمينة من زمن كان يحمل في ثناياه بذور التحولات اللاحقة.
مغادرة بيروت
بعدما مكث عدة أيام في بيروت وفاجأه انفتاح أهلها واندماجهم في الحضارة الغربية، قرر أحمد سمير السفر إلى دمشق، فيصف الطريق الذي قطعه على إحدى عربات الشركة الفرنسية التي كانت تستثمر الطريق، فقال: "لما حان السير أقبلت العربة يجرها فرسان مشدودان إلى بغلين، فما ركبناها حتى أخذت تنهب الأرض ركضاً تثير به من الغبار نقعاً، فمرت من الطريق الجديدة المعروفة بطريق الكروسة إلى الحازمية، وهي أول أعمال لبنان مما يلي بيروت حيث مدفن فرنقو باشا والعلامة أحمد فارس وغيرهما من المشاهير.. وبعد ذلك ابتدأنا في الصعود، فما زلنا نعلو وبيروت تسفل حتى بلغنا إلى جمهور، وهي الموقف، وهم يقولون (الغيار) الأول، ثم مضينا في وجهتنا ولم تقف بنا العربة إلا في أبي دهان (بودخان) وعين صوفر، حيث العين الشهيرة بعذوبة مائها وبرودته وصفائه وخفته على المعدة، ثم جزناها إلى مراد، فأخذنا في قطع عقبة صعبة المرتقى بعيدة المدى تذكر المجتاز بالمرور على الصراط، فلولا مهارة السائق لانهارت العربة في واد ما له قرار، فقطعناها في نحو ساعتين وصلنا عقيبهما إلى أشتورة، آخر أعمال لبنان مما يلي الشام".
ويضيف واصفا السفر بهذه العربات التي قصرت المسافات وقربت ما بين دمشق وبيروت: "وهناك تلاقينا مع العربة القادمة من دمشق وذلك عند الزوال، فوقفت العربتان نصف ساعة نزلنا في خلالها للغداء وإذا على ملابسنا من الغبار أثواب أخرى مغبرة، فمضينا إلى نزل هناك خلعناها عليه وقضينا من الأكل شهوة النفس إلى أن نفخ في نفير السفر فعدنا للعربة واستقلت هي بنا سائرة في فضاء سهل ثم وقفت في جسر دير ذي النون ومصنع، وقطعت عقبة الطين ووادي القرن ووقفت بالجديدة، ثم انبرت تجري عابرة وادي الحرير ووادي ميسلون ووقفت بميسلون ومرت في الصحراء وسهل الديماس ووقفت بالديماس ثم بالهامة، وهي آخر المواقف وأول البساتين التي لا يزال الداخل إلى دمشق سائراً في حمى ظلها بين الأزهار والأنوار.. وقد مررنا في طريقنا إليها على دمر والربوة ونحن ننتظر ساعة الوصول، إلى أن استقبلنا صدر الباز، وهو أول ما يبدو من البلد".
ولما أصبح الصباح خرج أحمد سمير للطواف في شوارع دمشق وأسواقها فألفاها "لم تزل على الطرز القديم في أغلب المباني والممار ولم يخرج أهلوها عن حالتهم الفطرية في تلاقيهم واجتماعهم يحدقون إلى الغريب بأبصارهم ويشيرون نحوه بأيديهم كأنما لم يطرق بلدهم طارق". ثم يضيف قائلاً: "إلا أنهم أرق من أهل بيروت عند المقابلة وأذلق منهم لساناً، لا يستعملون في التخاطب إلا ألفاظ التعظيم".
ثم يقول: "ولا ريب أن دمشق من أقدم المدن المعمورة وقد ذكرت في التوراة ولا يتيسر الآن تعداد سكانها فإنهم في دفاتر الحكومة هناك مائة واثنان وعشرون ألف نسمة وشيء، وعلى ما في جغرافية فان ديك، مائة وخمسون ألفاً، والحق أنهم مائة وستون ألفاً، لأن كثيرين منهم لم تقيد أسماؤهم في دفاتر الحكومة هرباً من العسكرية.. ويكثر في دمشق وجود الترك، لأن الدولة العلية تنفي إليها المذنبين بعد أن كانت تنفيهم إلى عكا، ولهذا قلّ أن يوجد مجلس ليس فيه من يتكلم بالتركية بل يندر أن تسمع عبارة عربية جميع المفردات، فقد غلب الدخيل في لغة القوم وكاد يخرج بها إلى الفساد العام".
انتقاد للهجة الدمشقية
وينتقد أحمد سمير لهجة الدمشقيين، فيزعم أنهم "يمططون الكلام تمطيطاً لا يؤدي له القلم رسماً بل لا يتمكن من دخول المسامع إلا بأفواه أهليه. وهم إحدى الأمم التي فسدت عربيتها فلم يصح الاحتجاج بها، لأن الذين دوّنوا لغات العرب بعد البحث والاستقراء قد تركوا الشام فيما تركوه قصداً لمجاورة أهلها للرومانيين واختلاطهم بالسريانيين مما أفسد لغتهم بكثرة الدخيل فيها فصارت عند النقلة هجراً مهجوراً".
وبعد أن يتناول بعض المفردات التي يستعملها الدمشقيون في كلامهم اليومي، يصل إلى بيت شعر لابن منير الطرابلسي يسخر من استخدام الدمشقيين كلمتي المسطيجة والقطيرة في زمنه أيام السلطان نورالدين الزنكي. فيقول: "وكنت لا أفهم البيت الثالث ولا يقنعني في تفسيره ما أتى به داود الأكمه في تزيين الأسواق حتى سمعت بعضهم يطلب مسطيجة ليزيل بها العنكبوت وإذا هي عصا طويلة كالسعفة، ثم سألت عن القطيرة فقيل لي إنها الحبل الذي تقرن به دابتان أو أكثر، فعلمت أن ما أطال به داود غير صحيح". ثم يستدرك: "ولكن لهجة أهل دمشق مع هذه العيوب أطيب في السمع وأقرب إلى الصحة من لهجة أهل بيروت وغيرها، إذ ليس للإمالة ولا تفخيم المرقق ولا لإبدال الشاذ في لهجة الدمشقيين وجود، غير أنهم يرونها أحسن اللهجات العربية وأرقها وأفضلها، حتى أن كثيراً منهم يسخرون من لهجة أهل مصر ويحاكون المتكلم بها استهزاء ضرورة أن سماع غير المألوف صعب".
ولع الدمشقيين بمدينتهم
يتحدث عن حب الدمشقيين لمدينتهم الذي منعهم من مغادرتها: "تلك هي حال أهل دمشق التي لم يقعوا في ورطتها إلا بحبهم الأعمى لبلدهم، فإنهم زيادة على ما تقدم قد سمعوا أن الشام جنة الله في أرضه ورأوا ما فيها من الرياض والغياض والأزهار والأنهار فوطنوا على المقام بها نفوسهم وعدوا الخروج منها عاراً فليسوا كبقية سكان سورية الذين يرون كل بلد لهم وطناً وكل دار لهم سكناً لأن غالب أهل دمشق يستنكفون عن مفارقتها بل لا يسمحون بخروج بناتهم منها. وأعرف بعضاً ممن تزوج منهم ثم طرأ عليه من أمور المعيشة ما اضطره لانتجاع بلد آخر فلم ترض امرأته أن تصحبه ولو كانت وجهته بيروت.. نعم إن حب الوطن من ضروريات الحر ولكن لا إلى درجة أن يرغم على المقام فيه فلو أن كل إنسان أقام ببلده غنياً بنفسه ما عرفت الممالك ولا كان بين الناس من الاتصال ما كان".
وحول الطعام الدمشقي، يقول: "لقد غلبت على الدمشقيين الملاذ فاتبعوا شهواتهم وعبدوا بطونهم وعنوا بالمآكل متفننين في أساليبها، فبمقدار ما يحبون بلدهم يتغالون في مطاعمهم، سواء في ذلك الغني والفقير، كل على قدر طاقته أو فوقها... وهم يكثرون من الشحوم والأدهان والأبازير في مطاعمهم ولهم منها أنواع سموها بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، كالصفيحة والكواج وباب غنوج والكبة وطباخ روحه والفتوش، وقد شرحتها في الرحلة الجامعة.. وطريقتهم في الأكل أن يوضع على المائدة صحن كبير من الأرز وحوله أطباق تشتمل على أنواع الخضر وبعض اللحم ثم يجلس الأكلة على كراسي لا يزيد علوها عن شبر.. إلا أن المهذبين منهم وأصحاب البيوت الكبيرة يقلدون في ترتيب مآكلهم الترك والإفرنج شأن من درس الأخلاق في مدارس المعاشرة".
ويضيف: "وما أعظم شغف القوم بالفواكه لكثرتها لديهم وقلة أثمانها فإن ثمن رطل العنب الزيني الذي هو أحسن الأعناب وأكبرها حجماً وألذها طعماً قرش واحد، وهو نحو ثلاثين بارة مصرية، والرطل هناك عبارة عن ثمانمائة درهم كما هو في أغلب البلاد الشامية إلا في يافا وحلب فإنه في الأولى تسعمائة درهم وفي الثانية ألف.. وأطيب فاكهة الشام العنب الزيني والمشمش الحموي بخلاف بقية الأنواع فإنها ليست على ما يزعم الزاعمون من الحلاوة وطيب المذاق، خصوصاً وهم يأكلونها فجة غير كاملة الاستواء فإذا سألتهم عن الحكمة في ذلك قالوا إن الخوف عليها من السرقة ليلاً يدعو إلى التعجيل بالجني!!".
ملابس الدمشقيات
وحول ملابس دمشق في ذلك الوقت، يقول: "يميلون للون الأصفر في ملابسهم، فهو أحب الألوان إليهم وأكثرها بينهم انتشاراً بل لا تكاد العين تبصر على واحد منهم سواه، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء. وأغلب نساء دمشق لا يمشين في الطرق إلا منتقبات.. والنقاب عبارة عن منديل رقيق من النوع المسمى في الإسكندرية بالمدورة يستر جميع الوجه بحيث لا يبدو منه شيء وهو الأليق بالصيانة، إلا أن منظره لا يشوق ولا يروق بل يرد الطرف.. وليس في نساء دمشق من المسيحيات واليهوديات من تتبرج بالملابس الإفرنجية إلا في بعض عائلات لا تتجاوز عدد الأصابع، بل إن الذين استوطنوا البلد من الإفرنج واليونان لا تمشي نساؤهم في الطرق إلا مؤتزرات منتقبات، فما بال هؤلاء اللاتي يأتين إلى مصر يتركن تلك الهيئات اللطيفة وينبذن مألوف العادات الجميلة ظهرياً فيجارين الغربيات في الملابس ويسابقنهن في ميادين الأزياء الجديدة متخذات من العظام الخلفية ما هو ببهرجة الباريسيات أليق وأولى. هل اشتبهت عليهن مصر الإفريقية بفرنسا الأوربية أم أهل يناسب هذا التقليد شرب التراكيل أو الأراكيل تالله إنه طلسم لا يحل برمل ولا زايرجة ولا تنجيم".
ولا ينسى أحمد سمير التنبيه إلى جمال الدمشقيات، فيقول: "على أن ذلك كله قد يغتفر في جانب ما امتاز به نساء الشام من الجمال البارع والحسن البديع، فلا أظن أني رأيت أبهى منهن طلعة أو أبهى منظراً أو ألطف شكلاً مما لا شك معه في أنهن عنوان ما لهذا الجنس اللطيف على الرجال واستعباد أفكارهم الحرة لولا أن كلامهن ثقيل على المسامع غير مقبول لدى صاحب الذوق السليم فليت حظ الناظر إليهن أن يقابلنه بالسكوت".
ويلفت أحمد سمير النظر إلى ملاحظة عن اعتناء بعض الموظفين الدمشقيين ببيوتهم بما يفوق دخلهم، فيقول: "إن رؤساء الكتاب (الباشكتاب) قد لا يزيد راتب بعضهم في الشهر عن أربعمائة قرش ومع ذلك تراه عظيم الأبهة كثير الأملاك رغد العيش يتنعم هو وعائلته بما لا يكفي كل راتبه لجزء منه صغير، ثم إذا نظرت من جهة أخرى رأيت أنه قد لا يحصل على جميع رواتبه في أوقاتها فمن أين عظمت أبهته وكثرت أملاكه وزاد في الخدم والحشم، لا جرم أن للرشوة اليد البيضاء على اليد السوداء بالامتداد، فلا بارك الله في الرشوة ورجالها.. وقد بلغ الاختلال هناك من الإدارات غايته القصوى، إذ إنه لا يتم عمل فيها صغيراً كان أو كبيراً إلا بشفاعة الرشوة، لا يستثنى من ذلك سوى الوالي والمشير وبعض آحاد معلومة".
وحول الحالة التعليمية للمدينة، يقول أحمد سمير: "أما المدارس الظاهرة الآن فقليلة جداً ولا يشتغل الطلبة فيها إلا بتحصيل بعض الفروع الفقهية والمبادئ الصوفية والنحوية وما شاكل ذلك مما يشتغل به صغار الطلبة في الأزهر. وللحكومة بعض مكاتب رشدية ومكتب إعدادي ومدرسة حربية جامعة وذلك قليل بالنسبة لتعداد السكان وشدة حاجتهم إلى معارف تنهض بهم من ورطة الخمول.. ومدارس النصارى هناك أكثر من مدارس الحكومة ولكن ليس للحصول على العلوم العالية فيها حظ، ولهذا كانت معارف نصارى الشام أقل بكثير من معارف نصارى بيروت بل لا تكاد تذكر في جانبها. أما مدارس اليهود فكلها ابتدائية لأن مطمح أنظارهم هو المال سواء علموا أم لم يعلموا".
ملل الغريب
وحول اللهو في دمشق، يقول أحمد سمير: "إذا لم يكن للغريب في دمشق صاحب سئم المقام وضجر من الوحدة، لأن المعتبرين لا يسهرون إلا في بيوتهم والعامة ينامون من أول الليل، فترى البلدة من بعد العشاء لا حس فيها ولا حسيس، لأن أسواقها وطرقها لا تنور إلا بمصابيح صغيرة من زيت البترول قد ينطفئ أغلبها عقيب إيقاده، كما أن من الأزقة ما لا ينور البتة، فإذا خاطر الشخص وخرج في الليل فربما داس في الظلام كلباً فعقرة أو سقط في حفرة لم يكن منها على علم فانكسرت رجله.. ولذلك يقصد أرباب اللهو حارة النصارى أو ما جاروها ليقضوا الأوقات في القصف والخلاعة ومغازلة الحسان، وكيف يتمكن مثلي من ذلك والعمامة تمنع منه وأولئك الناس لا يرون من حاملها إلا مكدراً لصفائهم وعدواً للسرور مبيناً".
ويضيف: "وهي شديدة الحرارة في الصيف ولكن لا يعرق الإنسان فيها كما يعرق في بيروت، وأعدل فصولها هو فصل الربيع، فأما الشتاء فإن برده لا يطاق. وهم يقسمون كل فصل إلى قسمين، الأول أربعينية لأن عدته أربعون يوماً، والثاني خمسينية. ومن عادتهم في فصل الربيع أن يخرجوا نساء ورجالاً مختلطين كل يوم سبت إلى المرجة، وكل يوم ثلاثاء إلى الصوفانية في سبعة أسابيع متوالية".
وحول حرف دمشق، يقول: "في دمشق كثير من مناسج الحرير وغيره وقد بلغوا من إتقانه الغاية وكذلك الصياغ هناك هم من الطبقة الأولى في حسن الصوغ والترصيع، ولا تزال في أيدي الأهلين بعض الصنائع الدقيقة كتركيب الصدف والتطعيم، وكان فيهم من يعمل القيشاني وهو الحجر المجزع (؟) ثم فقد منذ أكثر من قرن بموت العاملين الذين كانوا كالصينيين محتكرين العمل لا يسمحون بتعليمه لمن دخل فيهم وليس منهم".
ويصف أحمد سمير مباني دمشق، فيقول: "فمن مباني دمشق البيوت وهي غالباً غير عالية ولا جميلة المنظر من الخارج ولكن داخلها بديع الصنعة رائق الشكل حسن الوضع، لأن لكل بيت صحناً واسعاً ممهد الأرض بالرخام أو الحجر فيه نوفرة يسمونها البحرة لا ينقطع منها الماء ولا يتغير بطول المكث فإنه دائم الانسكاب، وإلى ذلك الصحن تنفذ أبواب قاعات جميلة عديدة مزينة بالرسوم الباهرة مفروشة بالبسط والنمارق المرقشة، فما كان منها ذا نوفرة مائية سموه قاعة وإلا فهو المربع، ويدعون الغرفة العالية في البيوت المعتبرة قصراً، وفي غيرها فرنكة، بكاف فارسية.. وأشهر مباني البيوت هناك دار العظم، وهي أكبر الجميع وأحسنها، كما أن عائلة العظم أشرف عائلة في الشام وأعظمها مجداً، لأن الإمارة كانت فيهم، فلهذا كان لكافة ولاة الشام بهم الوثوق التام إلا الوالي الحالي، فإنه قد جعل يتتبعهم ويبث عليهم العيون والأرصاد حتى وضع كبيرهم أحمد بك العظم وشيعته في السجن، فاضطرمت في البلد نار فتنة سببها عدم رضا هذا الكبير ومن انضم إليه عن أعمال بعض رؤساء المحاكم لكونه من أكبر المجاهرين بالارتشاء، وما ولي عملاً إلا عزل منه بالارتكاب، فلما كلم أعيان البلد الوالي في أمره وقبحوا له سيره ودخل إليه هذا الرجل من باب التملق وخدعه فاغتر بظاهره وأمر بالقبض على ابن العظم وأنصاره وحبسهم فوق الشهرين وهو يخابر الدولة العلية في شأنهم، مسترشداً برئيس المحكمة، راجعاً إلى عذر العاجز من أن تلك الفئة ماسونية مهيجة تروج السياسة الفرنساوية في البلد، ثم أعيته الحيلة فأفرج عنهم، وقد صير الساخط عليه أكثر من الراضي.. وبعد دار العظم في الجلالة والاعتبار دار القوتلي ودار الشمعة ودار عنبر ودار الشامي ودار الصباغ وعدة دور أخر يقصدها السائحون من شاسع الأقطار للتفرج عليها".
الكنائس والحمامات والمقاهي
ويتابع معدداً مباني دمشق، فيقول: "من مباني دمشق العظيمة كنائس النصارى، وهي أربع عشرة وأديرتهم وهي ثلاثة، وبيع اليهود وهي عشر. ومنها الحمامات وتبلغ بضعة وستين حماماً، أحسنها وأشهرها وأبدعها حمام القيشاني وحمام الخياطين وحمام الملكة وحمام المسك، وهي على الإجمال خير حمامات المشرق وأقلها أجوراً.. وليس هناك منازل للغرباء (أوتيلات) إلا اثنان بالمرجة يدفع المرء في كليهما ثمانية فرنكات في اليوم قيمة الأكل والنوم، وواحد في سوق علي باشا للنوم بلا أكل، وآخر في حارة النصارى.. ويوجد علاوة على ذلك نحو مائة وأربعين خاناً من التي تسمى في مصر بالوكائل.. أما قهاوي البلد فنحو مائة وعشرين وأكثرها سفلية وقد امتاز مشاهيرها بالماء والخضرة كقهوة البلدية وأمثالها من قهاوي المرجة والصوفانية بخلاف غيرها من قهاوي العامة فإنها ظلمة في العين همّ على القلب ليس فيها من المقاعد إلا كراسي لاطئة بالأرض لا يجوز علوها عنها شبراً.. وعلى مقربة من سوق الخيل قهاوٍ يسمون الواحدة منها كازينو بعضها علوي وبعضها سفلي، وأكثرها انتياباً قهوة دمتري، وما أدراك ما قهوة دمتري. هي قهوة واقعة في أهم مراكز البلد أمام قصر الحكومة منقسمة إلى قسمين، أحدهما مطعم (لوكاندة) وحانة، وثانيهما قهوة ومجمع مقامرة، فيقصدها كثير من المتقاعدين وضباط العسكر ومحبي اللهو واللعب ليشربوا ويتقامروا، حتى غدت رؤوس أموال بعضهم ديوناً لا يقوم بها وفاء واغتنى صاحبها وكان من صعاليك اليونان.. ولقد سمعت بعض ظرفاء دمشق يقول صدق الله العظيم يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، أما الإثم فعلى هؤلاء الذين يفقرون أنفسهم بأيديهم، وأما المنافع فهي لدمتري لأنه في كافة الأحوال رابح".
متنزهات للعشاق
وحول متنزهات دمشق، يقول أحمد سمير: "ومنتزهاتهم مروج فسيحة مخضرة وبساتين قد أخذت زخرفها من الزهر والنبات وازينت، وجنات طبيعية دانية القطوف قد أحاطت بالبلد إحاطة الهالة بالقمر المكسوف، ومرّت الأنهار فيها ومن تحتها تتلوى لتركها سائبة، وما أحسن تلك المنتزهات الأنيقة والمناظر البديعة، حيث يتلاقى الندام بحكم الصدفة متسابقين في حلبة الكميت، ويتراءى عشاق الملاحة ومن يحبون على ميعاد فيتراسلون بإشارات الأصابع وهمس الشفاه ولحظات العيون، فكم من مستتر قد خلع لباس نسكه في البلد وخرج إلى تلك المجامع مهجعاً فاستباح من حمى الراح مهتوكاً طالما حظرته عليه المسايرة، وكم من عاشق خشي اقتحام البيوت وغائلة الحراس فواعد حبيبه أن يلقاه في إحدى الرياض ليجريا في غفلة الرقيب لأن كل إنسان هناك مشغول بنفسه وكأسه وجالب إنسه لا ينقد أحداً ولا ينتقد عليه.. وأكثر هذه المنتزهات قصداً وأكبرها جمعاً وأشدها ازدحاماً منتزهات الصوفانية خارج الباب الشرقي يتسلل إليها الرجال والنساء.. ودون تلك المنازه منازه الصالحية والمرجة والمزة والربوة ودمر وغيرها فهي أقل منها قصاداً وإن كانت في ما عدا المرجة أعدل هواء وأصح مقاماً".
ويختم رحالتنا حديثه عن دمشق، بقوله: "لقد أقمت في دمشق أسبوعين لم أطلع فيهما على شيء من الجرائد العربية غير الأهرام فإن ما عداها من جرائد مصر ممنوع من الدخول إلى سورية بنص إرادة سلطانية صدرت قبل ظهور المؤيد والمقطم إلى عالم العيان فشملهما نصها، وجرائد بيروت غير مفيدة فإنها تكتب بأوامر رجال الحكومة، وليس في دمشق إلا جريدة رسمية تعلن التقاليد والمنشورات بالعربية والتركية كل أسبوع مرة.. ولما عظم أمر الوباء هناك ونقب في البلاد واقترب من دمشق أزمعت الخروج منها بليل فركبت عربة البوسطة المدعوة بالحنتور وهي تسافر مساء كل يوم عند ابتداء الساعة السابعة، فاستقلت بنا يوم الأربعاء خامس شهر نوفمبر (22 ربيع الأول) (تشرين الثاني) قبيل المغرب في نفس الطريق التي جزناها يوم القدوم حتى وصلنا إلى أشتورة قريباً من منتصف الليل فقضينا بقيته بها ننتظر طلوع النهار في بعض منازل الغرباء".