تتلاحق أحداث العرب بتسارع يُدهش الزمن. تتقلب فصول السياسة والتاريخ والجغرافيا في وقت مضغوط بالكاد يتنفس، ومعه تتنفس تلك الأحداث وتأخذ المدى الذي يتيح فهمها وموضعتها في سياقات أوسع. تحاول الكتب وكُتابها فهم "ما جرى" على أمل أن يلقي ضوءاً هنا أو هناك على ما يجري، أو ما قد يجري. بعد هدوء عواصف أي حدث، تتمطى الكتب بهذا القدر أو ذاك من الإنجاز والثقة أو التنبؤ، تبعا للعمق المُقدم في كل منها. تستغل الهدوء الفاصل بين حدث عاصف وآخر يليه لتتأمل في مفردات ومكونات للفهم تفوت عادة كثيرين، فيتصدى للكشف عنها الكتاب المقدام! مشكلة كتب الحقبة الراهنة التي تتصدى للفهم والتأمل فيما يقع ويحدث في واقع العرب سريع الإيقاع، متفجر الوقائع، تكمن في غياب "فاصل الهدوء" القصير أو استراحة المحارب، بين الحدث العاصف والذي يليه. تصبح ملاحقة الأحداث والوقائع ومحاولة رصدها وتحليلها بالعمق وبالكتب مهمة شبه مستحيلة.
نتيجة ذلك أن الكتب الصادرة عن هذه المنطقة من العالم، سواء أكانت بأسِّها العربي، أو امتدادها الشرق أوسطي، سرعان ما تفقد قيمتها وتقع أسيرة الحيرة... أو التحليل الخاطئ كلياً. المحظوظ من تلك الكتب يحتل موقعاً في "السيرة التاريخية" للحدث المعني، أو الديموغرافيا، أو الجغرافيا التي يعالجها الكتاب. أي أن يصبح رقماً في الهامش الببليوغرافي للواقعة التاريخية. يصعب والحال هذه أن تُنتج كتب تنتمي إلى فصيلة "المراجع" أو أن تتسم بعمر طويل في المكتبة الحية، ولا تتم إزاحتها سريعا إلى قوائم "النبذة التاريخية".
يمكن القول، ومن دون التورط في مبالغات أو تعميمات عريضة، إن منطقتنا تتعرض لسلسلة متواصلة من الوقائع التاريخية العاصفة منذ أكثر من قرن، من دون أن يُتاح لها أو لأهلها أو لمن يكتب كتباً عنها أن يلتقط بعضا من نفس. منذ تسارع الانهيار في الدولة العثمانية في العشرية الأولى من القرن العشرين، ورياح الأحداث تقلب كل خيم العرب، وتطوح بهم من موقع لآخر، ومعهم قائمة طويلة من الموضوعات التي أسست، وما تزال تؤسس لمساقات الحيرة الشاسعة والمديدة. تأمل بسيط في تلك القائمة يتيح لنا مواصلة الاندهاش من الاستمرارية العصية والمملة لتلك الموضوعات من دون أن تُحسم أو حتى تقترب من الحسم. لنتأمل بعضا منها: "العلاقة مع الغرب: مصدر الحداثة ومصدر الاستعمار، علاقة الدين بالدولة، البنية الاجتماعية المحافظة وعلاقتها بالتقدم والتخلف، النخب الحاكمة وأنواعها وأدوارها في تحديث أو تأخير مجتمعاتها، دور الأيديولوجيات وإنتاجاتها وصراعاتها (الليبرالية، الماركسية، الإسلاموية، القومية...)، صراع القبيلة والحداثة، وضع المرأة ومساواتها مع الرجل، فكرة الدولة ـ الأمة ومقبوليتها وواقعيتها، صراع الاستبداد والحرية، الوحدة والتجزئة، الحدود السياسية: صنيعة استعمارية، أم تجسيد لحقائق جغرافية وتاريخية وبشرية سابقة، ... وهكذا. هذه بعض الموضوعات التي حيرت الكتب والكتّاب طيلة قرن عربي طويل... وما تزال.
في لحظتنا الراهنة، صدرت كتب كثيرة بعيد الربيع العربي تبشر بحقبة جديدة، بانفكاك أخير ونهائي للعرب من نير استبداد طويل. كانت صور ميادين العواصم في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية والبحرين قد أطلقت العنان لتفاؤل جارف، رقص بثمالة وجذل في صفحات الكثير من الكتب (فضلا عن الصحف والإعلام التلفزيوني والاجتماعي). ما إن احتلت تلك الكتب أمكنتها على الرفوف حتى قامت ثورات مضادة شككت في كل ما جاءت به مقولات "كتب الربيع" من حرية، ونقض للاستثناء العربي، وقبر للاستبداد. الآن تصدر كتب جديدة تأمل أن تفسر الانقلاب على الربيع. لا أحد يعرف واقعة الغد التي ستحيل كتب اليوم إلى التقاعد من جديد.
(كاتب عربي)
نتيجة ذلك أن الكتب الصادرة عن هذه المنطقة من العالم، سواء أكانت بأسِّها العربي، أو امتدادها الشرق أوسطي، سرعان ما تفقد قيمتها وتقع أسيرة الحيرة... أو التحليل الخاطئ كلياً. المحظوظ من تلك الكتب يحتل موقعاً في "السيرة التاريخية" للحدث المعني، أو الديموغرافيا، أو الجغرافيا التي يعالجها الكتاب. أي أن يصبح رقماً في الهامش الببليوغرافي للواقعة التاريخية. يصعب والحال هذه أن تُنتج كتب تنتمي إلى فصيلة "المراجع" أو أن تتسم بعمر طويل في المكتبة الحية، ولا تتم إزاحتها سريعا إلى قوائم "النبذة التاريخية".
يمكن القول، ومن دون التورط في مبالغات أو تعميمات عريضة، إن منطقتنا تتعرض لسلسلة متواصلة من الوقائع التاريخية العاصفة منذ أكثر من قرن، من دون أن يُتاح لها أو لأهلها أو لمن يكتب كتباً عنها أن يلتقط بعضا من نفس. منذ تسارع الانهيار في الدولة العثمانية في العشرية الأولى من القرن العشرين، ورياح الأحداث تقلب كل خيم العرب، وتطوح بهم من موقع لآخر، ومعهم قائمة طويلة من الموضوعات التي أسست، وما تزال تؤسس لمساقات الحيرة الشاسعة والمديدة. تأمل بسيط في تلك القائمة يتيح لنا مواصلة الاندهاش من الاستمرارية العصية والمملة لتلك الموضوعات من دون أن تُحسم أو حتى تقترب من الحسم. لنتأمل بعضا منها: "العلاقة مع الغرب: مصدر الحداثة ومصدر الاستعمار، علاقة الدين بالدولة، البنية الاجتماعية المحافظة وعلاقتها بالتقدم والتخلف، النخب الحاكمة وأنواعها وأدوارها في تحديث أو تأخير مجتمعاتها، دور الأيديولوجيات وإنتاجاتها وصراعاتها (الليبرالية، الماركسية، الإسلاموية، القومية...)، صراع القبيلة والحداثة، وضع المرأة ومساواتها مع الرجل، فكرة الدولة ـ الأمة ومقبوليتها وواقعيتها، صراع الاستبداد والحرية، الوحدة والتجزئة، الحدود السياسية: صنيعة استعمارية، أم تجسيد لحقائق جغرافية وتاريخية وبشرية سابقة، ... وهكذا. هذه بعض الموضوعات التي حيرت الكتب والكتّاب طيلة قرن عربي طويل... وما تزال.
في لحظتنا الراهنة، صدرت كتب كثيرة بعيد الربيع العربي تبشر بحقبة جديدة، بانفكاك أخير ونهائي للعرب من نير استبداد طويل. كانت صور ميادين العواصم في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية والبحرين قد أطلقت العنان لتفاؤل جارف، رقص بثمالة وجذل في صفحات الكثير من الكتب (فضلا عن الصحف والإعلام التلفزيوني والاجتماعي). ما إن احتلت تلك الكتب أمكنتها على الرفوف حتى قامت ثورات مضادة شككت في كل ما جاءت به مقولات "كتب الربيع" من حرية، ونقض للاستثناء العربي، وقبر للاستبداد. الآن تصدر كتب جديدة تأمل أن تفسر الانقلاب على الربيع. لا أحد يعرف واقعة الغد التي ستحيل كتب اليوم إلى التقاعد من جديد.
(كاتب عربي)