تتّخذ العلاقة بين مختلف الأجيال الثقافية في المغرب، في كثير من الأحيان، طابع الصراع الذي يأخذ تمظهرات عدّة، أقلّها حروب صغيرةٌ تؤدّي بكلّ طرف إلى تجاهل الطرف الآخر، أو إقصائه أو تهميشه. لكن، يبدو أن الجيل الجديد، ممثّلاً في الكتّاب والفنانين والمثقّفين الشباب يجد نفسه غالباً في دائرة الاتهام؛ حيثُ كثيراً ما يُتّهم بالتنكّر لمن سبقه أو الجهل به. وأيّاً كان، فاللافت أن ذلك الصراع الذي كثيراً ما يصل حدّ القطيعة، غالباً ما يدور خارج الفكر والأدب، حيثُ لا يشكّل الاختلاف حول الأفكار سبباً رئيسياً فيه. "العربي الجديد" استطلعت آراء بعض المثقّفين في المغرب حول أسباب هذا الصراع وتلك القطيعة، ونتائجهما.
يرى الروائي، مصطفى لغتيري، أن "العلاقة بين الأجيال في ميدان الثقافة والفنون اتّسمت دائماً بقليل أو كثير من التوتّر وسوء الفهم، مضيفاً أن ذلك قد يكون مفهوماً ومقبولاً إذا بُني على أسس فكرية وإيديولوجية، إذ إن كل جيل يسعى إلى تجاوز الجيل الذي سبقه، والتمرّد على أطروحاته وأفكاره وذائقته الجمالية".
يعتبر لغتيري أن "صراع الأجيال غالباً ما يكون إيجابياً، لأنه يساير سنّة الحياة في التطوّر الذي لا يحدث إلّا بتجاوز الماضي. لكن هذا الانسلاخ لن يتم إلا بعد الاطلاع العميق على أفكار الجيل السابق وهضمها وتمثّلها".
أمّا الجانب السلبي، بحسب صاحب "ابن السماء"، فهو "ما يجري بشكل عبثي، حين يعتقد الجيل الجديد أن كل شيء بدأ معه، متناسياً أن تراكماً كبيراً وُجد قبله، وهو وليد ذلك التراكم؛ إذ لا شيء يأتي من فراغ. لذا، فهو مطالب بالاطلاع عليه، حتى وإن رفضه".
يعتبر لغتيري أن معظم أبناء جيل الشباب يعانون من عقدة قتل الأب، فيسعون جاهدين إلى إخفاء آبائهم وأسلافهم الرمزيّين عن قصد أو غير قصد. يشير إلى ما يسمّيه "جهلاً يستبدّ ببعض الشباب حيال روّاد الأدب والثقافة في المغرب"، مستشهداً، هنا، بأن أحد الكتّاب الشباب وصف، مؤخّراً، الكاتب محمد زفزاف بصاحب "الخبز الحافي".
وأمّا أسباب "القطيعة" بين الجيلين، فيُجملها الشاعر وأستاذ الأدب العربي في "جامعة مرّاكش"، عبد العالي مجدوب، في عددٍ من العوامل المتعدّدة والمتشعّبة؛ أولها "تدهور التعليم العمومي، حيث أصبحت هويّتنا مطبوعة بالتشوّه والتمزّق والضياع، ومهدّدة بالزوال"، مضيفاً: "التبعية والتغّرب والانبهار بالآخر، باتت صفات غالبة على النخبة، خصوصاً في مجالات الفكر والفنون والآداب، ومن ثمَّ، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، لأن المثقّف، الذي يُفترض أن يتقدّم الصفوف ويقود ويرشد ويرسم المعالم والآفاق، هو واقع في أسر التغرُّب، لا ينفكّ يلهث وراء الآخر، مقلّداً وناقلاً".
يضيف سبباً آخر يتمثّل في "التبعية العامة التي استتبعت تشوّهات وانحرافات على مستوى الأخلاق والأذواق والسلوكيات، واختلاطات واضطرابات، على مستوى الاختيارات والتوجّهات، وهو ما أسّس لفضاء اجتماعي يمتاز بالضعف والتفكّك".
يعتبر المتحدّث أن "الغلبة في المجتمع المغربي باتت للأميّين وأشباه الأميين، ويظهر هذا جلياً في المهرجانات التي تُنظَّم في مختلف مناطق البلاد، حيث الإلهاء والإسفاف والضحالة هي الصفة الغالبة. وإن كان هناك من استثناء، فهو يؤكّد القاعدة".
يشير مجدوب أيضاً إلى "التنكّر للهوية الإسلامية في صورتها الأصيلة المشرقة"، معتبراً أن ذلك أحد الأسباب الرئيسية وراء هذه القطيعة، "لأن الهوية الإسلامية رابط جامع، والتغرّب عنصر مفرّق ممزّق".
في معرض حديثه عن القطيعة بين الأجيال، يعرّج مجدوب على مسألة الحداثة التي يعتبر أن إساءة فهمها وتوظيفها تُعد سبباً إضافياً. يتساءل: "من يقرأ الشعر الحداثي المغربي، مثلاً، من الشباب الناشئ خارج قاعات الدرس؟ ومن يعرف هؤلاء الشعراء الحداثيين خارج الدوائر الأكاديمية والإعلامية الضيقة، وخارج المناسبات الموسمية المصنوعة؟"، مضيفاً: "ما نصفه بالشعر الحداثي، في أغلبه/ مقطوع عن القارئ المغربي؛ وهو أقرب إلى العبث منه إلى الجد، وهو أبعد ما يكون عن الفن الجميل الممتع والهادف. ومع ذلك، فهو مفروض على الناس".
وبخصوص الفن السينمائي في المغرب، يقول مجدوب إنه يعيش بـ "منشّطات" الدولة، في إشارة منه إلى التمويل الرسمي، مضيفاً "معظم المخرجين لم يكونوا ليعيشوا ويستمرّوا لولا دعم المركز السينمائي السخي. والأمر نفسه ينطبق على مجالات أخرى مثل المسرح والكتاب. كلّ شيء قائم على دعم الدولة، ولولا ذلك، لما كان هناك استمرار. أما في الموسيقى، فالصوت المسموع الذي يجذب جمهوراً كبيراً هو صوت الفن الشعبي العامي، من قبيل الستاتي، والداودية، وحجيب، والصنهاجي، وغيرهم"، ليخلص إلى أن "النخب المغربة في واد، والناس في واد آخر".
يعتبر المتحدّث أن "صراع الأجيال سيبقى قائماً، بما أن هناك مدافعين عن الهوية الحقيقية، ومدافعين عن الهويات الطارئة، والقطيعة بين الشباب وبين النخب الثقافية الفكرية والفنية ستستمر بما أن آفتي التغرّب والتبعية مستمرّتان".
من جهته، يقول الناقد السينمائي، فؤاد زويريق، إن نتائج القطيعة الثقافية بين الأجيال تتصاعد كلما تقدّمنا سنوات إلى الأمام، مشيراً إلى "وجود كم هائل من الخواء الفكري والثقافي الذي يسيطر على جيل اليوم بالخصوص، وهو جيل قطع نهائياً مع جيل الروّاد، ويحرّض على ذلك من خلال خطابه وممارساته اليومية".
يعزو زويريق ترسّخ هذه القطيعة إلى التقدّم التكنولوجي، إذ "فُتح الباب على مصراعيه للدخول إلى عوالم الغير، واستكشاف عمقها وتفاصيلها، فانبهر شبابنا بهذه العوالم الغريبة عنه، وأراد أن يقلّدها رغم بعدها عن ثقافته، فعمل من حيث لا يدري على ترسيخ ثقافة هجينة لا صلة لها به وبموروث مجتمعه".
يلفت المتحدّث أيضاً إلى "غياب الإعلام وابتعاده نهائياً عن تقديم الموروث الأصيل للمغرب، وما ورثناه عن الأجيال التي سبقتنا، والتعريف بروّادها والتذكير بهم من فترة إلى أخرى، فإعلامنا لا يبذل أي جهد في هذا المجال"، مضيفاً أن المؤسّسات التعليمية بدورها لا تولي لهذا الأمر اهتماماً كبيراً.
يسترسل زويريق بأن "مدارسنا العمومية، في عقود مضت، لم تقطع علاقتها مع إرث الأجيال السابقة، بل كانت تصرّ على ضمّه إلى مقرّراتنا حتى لا نقع في ما وقعنا فيه اليوم"، متابعاً بأن "مدارس اليوم، سيما الخاصة منها، أصبحت مجرّد مؤسّسات مختصّة في استيراد ثقافة الغير وتلقينها لأبنائنا".
ويستدرك الناقد بأن "هذا ليس عيباً في حد ذاته، خصوصاً إذا كنا سنستفيد منها، لكن تغييب موروثنا الثقافي والفكري والفني أو التنكّر له، هو ظلم لهذا الجيل الذي علينا نحن كمجتمع بكل أطيافه وفئاته ومؤسّساته أن نسعى لتأسيس جسر يربط بينه وبين الروّاد، ومن غير هذا الجسر سيبقى شبابنا ضائعاً بلا أصل ولا ماض ولا ذاكرة".