لبنان بالنسبة لي هو الوطن. ألّفت له صورة من ذكريات أمي وحديثها عن مناطق التحويطة والكوكودي بضواحي بيروت في ستينيات القرن الماضي. ساعدت بعض الصور بالأبيض والأسود تلك الذكريات لتأخذ ملامح أكثر وضوحاً. صبايا في تنانير قصيرة مع شبان في بنطالونات واسعة. الجميع كان سعيداً، أو هكذا بدا في الصورة.
اختلطت هذه الصور مع صور أو خيالات أخرى عن الحرب. كنت حينها في الخامسة من عمري وكنا خارج لبنان. كل ما أذكره هو مشهد أمي تبكي على أخيها الشهيد في حرب المخيمات. كانت تشتم حركة أمل، والتي ظننتها طائرة مروحية آنذاك، وتمنيت بدوري أن تقع، وبكيت على بكاء أمي.
بدأت هذه الصور والملامح تأخذ واقعاً أكثر حقيقية مع قدوم أهلي للاستقرار في لبنان في التسعينيات. كنت في العاشرة، ومن حينها وأنا أحاول العبور إلى الجماعة. لكني بقيت دائماً تلك "الأخرى". في المدرسة في صيدا (جنوب لبنان)، كان الأستاذ يعرف أهالي جميع الطلاب، ما عداي. لم أنتمِ بشكل فعلي إلى جماعة أو منطقة، ومع ذلك، بقيت مصّرة على العبور.
أخذني مسار العبور أكثر من ١٣ سنة. لهجتي باتت لبنانية بشكل تلقائي ولا إرادي؛ إلا إذا وُجِد إخوتي أو أحد أصدقائي من فلسطين أو الأردن في الجلسة، لتعود، وبشكل تلقائي أيضاً، إلى فلسطينيتها.
أردت وبإصرار أن يكون لبنان وطناً لي، رغماً عنه. هو دائم الدفع بالاتجاه المعاكس، إما عبر مؤسساته لا سيما الأمن العام، أو عبر ثقافته، أو عبر جزره الطائفية، وأنا دائمة البحث عن تقاطعات هويتي فيه ومن خلاله.
ربما يئست، وربما أيقنت بأنه لن يكون لي وطناً، رغم أنني حملت جنسيته في الأعوام الأربعة الأخيرة. انقلبت عليه وعلى كل ما يمثله. تركته ولم ألتفت إليه لا بحنين ولا بحسرة. بات أي شيء فيه يزعجني. رؤية المسافرين في طائرة الـ"ميدل إيست" تزعجني، وفكرة العودة في زيارة خاطفة أو زيارة عمل تزعجني. المسلسلات اللبنانية والأخبار اللبنانية وشوارع الحمراء وبدارو وفرن الشباك، كلها تزعجني. قررت أنني سأعيد الجنسية اللبنانية لهم كمرتجع من دون شكر.
لا أعرف ما هو المسار التصالحي الذي حصل منذ ١٧ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لكني من وقتها وأنا أفكر به كوطن. ومن وقتها وكلمة غسان كنفاني في رأسي، "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟". أبتسم بحياء بيني وبين نفسي حين أفكر أنني تركته ظناً مني بأنه فندق لم تعد تعجبني خدماته. لكن حين عدت وقرأت غسان وما يعنيه، ابتسمت مجدداً. "لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل". أنا اليوم خالد.
*ناشطة نسوية