لعلّ أبو يعرب المرزوقي (1947) من بين قلّة تجاوزت ذلك السقف الأكاديمي الذي طالما جعل من التفكير الفلسفي العربي أحجيات وفبركة للحلول، علاوة على تحويل الفيلسوف إلى موظف. لقد سعى أن يكون فكرُه محفزاً للشعوب العربية، من أجل استئناف دورها التاريخي. لكن بأي الأدوات؟ لعل واحدة من أكثرها نجاعة إصلاح ما أفسدته القراءات المغلوطة.
ضرب أبو يعرب الكثير من مسلّمات العقل العربي المعاصر. ظهرت هذه الملكة النقدية الحادة والجادة مع بواكير أعماله. فعن كتابه الأول، "مفهوم السببية عند الغزالي"، الذي نُشر سنة 1971 يقول: "أعتقد أنني حسمت الخلاف بين الغزالي وابن رشد، وبيّنت أن الثورة الحقيقية هي عند الغزالي وليس ابن رشد؛ لأن الغزالي هو من أسّس لاستقلال الفكر الحضاري العربي الاسلامي".
يربط المرزوقي هذه القراءة الخاطئة بمحاضرة ألقاها إرنست بلوخ في منتصف القرن العشرين بعنوان "اليسار الأرسطي"، مجّد فيها ابن سينا واعتبر الغزالي ظلاميّاً وأنه هو الذي قضى على الفكر الفلسفي في الحضارة الإسلامية. يعتبر المرزوقي أن هذه الفكرة "صارت تعتبر حقيقةً عند اليساريّين العرب، وقد ضخّموها إلى حدّ أنهم يتّهمون الغزالي بأنه سبب انحطاط الحضارة العربية الإسلامية".
حين عاد أبو يعرب المرزوقي إلى الغزالي وابن رشد، وجد أن "الغزالي أسس للنقد الفلسفي العقلي"، ووجد أن "ابن رشد مجرّد شارح لأرسطو". من هنا، يعتبر أن "المقارنة لا تجوز لأن المعاصرين يقارنون بين شارح لم يقدّم جديداً في الفكر الفلسفي، وفيلسوف. وحتى لو كان هذا الفيلسوف رجعيّاً؛ إلّا أنه قدّم شيئاً جديداً حين ميّز بين المعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية".
إن الموقف الإصلاحي للقراءات في تاريخ الفلسفة بدأه المرزوقي مع أرسطو، أي أنه لم يقصر عمله على نقد القراءة العربية للتراث الاسلامي، وإنما ذهب به إلى أبعد الحدود: نقد قراءة العقل للتراث الفكري عموماً.
مناخ التكوين
لقد جاء أبو يعرب المرزوقي إلى الفلسفة من بيئة أسرية منغرسة في قيم العروبة والاسلام. لم يمنع ذلك والده "الزيتوني"، في خمسينيات القرن العشرين، من تسجيله - وإن بكثير من التردّد - في مدرسة فرنسية اللسان. يقول أبو يعرب: "الدراسة الفرنكوفونية كانت نوعاً من التحدّي للتقاليد في ذلك الوقت". ورغم التشتيت الذي يصنعه تداخل ثقافتين في ذهن الفتى، سيعتبر بأنه استفاد من رؤيتين للعالم.
كما استفاد أيضاً من تكوين جامعي متين. وكان له حظ أن يدرس، وهو في مقاعد الجامعة التونسية، عن كبار أساتذة الفلسفة الفرنسيين مثل ميشال فوكو، وبول ريكور وهيبوليت مترجم هيغل، قبل أن يتوجّه إلى باريس ليستكمل دراساته العليا. يقول أبو يعرب: "ما أضافته لي الرحلة الباريسية، هو أنني لم أكتف بدراسة الفلسفة، اذ لم أضف شيئاً جديداً في دراسة الفلسفة، ولكنني اهتممت بدراسة القانون".
أما النقلة النوعية في تكوين أبو يعرب المرزوقي فقد كان التفاته نحو اللغة الألمانية، يقول: "في باريس، عزمت على إتمام ما بدأت في دراسة اللغة الألمانية. كنت مقتنعاً بأن الفلسفة الحديثة كلّها ألمانية، وخاصة بداية من القرن السابع عشر، يعني منذ لايبنيتز. وقد شعرت بنقص في الترجمات الفرنسية للنصوص الفلسفية الألمانية وأردت أن أدرس النصوص في الأصول".
عند هذه النقطة تبدأ ملامح الخط الفكري، الذي سيصاحب أبو يعرب المرزوقي، في الظهور. لقد نضج التساؤل الذي سيدور حوله فكر الرجل: "ما هو الدور الذي يمكن أن ننسبه إلى المرحلة العربية الإسلامية في التاريخ الانساني؟". لقد كانت عودة المرزوقي إلى التراث الاسلامي بعد أن حصّل الزاد الضروري من الفلسفة اليونانية والفلسفة الغربية الحديثة.
أراد المرزوقي أن يردّ على حكم استفزّه. ذلك الحكم الذي ألقاه هيغل عن الفلسفة الإسلامية في كتابه عن تاريخ الفلسفة. قال هيغل: "إن المرحلة العربية الاسلامية لم تضف شيئاً للعقل الإنساني". قاد السؤال الرئيسي المرزوقي إلى أسئلة أخرى: "هل أن الفلسفة العربية تمثل مجرّد جسر بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة؟" لكن "ما الذي جعل الفكر القديم والوسيط يصبح فكراً حديثاً؟".
يرى الفيلسوف التونسي أن "هذه النقلة تمت في المرحلة العربية؛ إلا أن العرب لم يكونوا مدركين لما حدث من تغيّر". ويضيف: "لم تكن المرحلة العربية مجرّد جسر ناقل بل أحدثت قفزة نوعية جعلت ما نسمّيه حداثة ممكناً".
ففيم تتمثل هذه الإضافة العربية الإسلامية؟ يجيب أبو يعرب: "هذه الإضافة شيء منها موجود في القرآن، وشيء منها في ما استوحاه العقل الفلسفي والعلمي من الأفق الجديد الذي فتحه القرآن الكريم. وذلك ما نجده لدى الغزالي وابن تيمية وابن خلدون خاصة". إن نزول القرآن، حسب أبو يعرب، "من أهم اللحظات المحورية في تاريخ الإنسانية، ولم يتجاوز أحد الأفق الذي حدّدته نظرية القرآن".
في القرن الرابع الهجري، عرف العالم الإسلامي ذروة حركة الترجمة التي رجعت إلى الأصول لتجاوز الترجمات الأولى التي كانت عن طريق غير مباشرة (عبر السريانية). "مثلت هذه اللحظة مرحلة صدام بين مرجعيتين هما مرجعية التراث الإسلامي (القرآن) ومرجعية التراث اليوناني، أثمرت تخاصباً بين المرجعيتين".
يوضّح أبو يعرب، فيقول: "كانت النظرة الإسلامية يغلب عليها أن المعرفة أساسها بناء عقلي للتجربة محدود بالوعي بما يتجاوزه ولا يمكنه أن يستوفيه (مفهوم الغيب)". يضيف: "ما يتعذّر أن يستوفيه العقل له من الجاذبية ما يجعل العقل يحاول دائماً أن يسمو أو يتجاوز ذاته، وهو يدعو الى نوع من العمل الدائم لتحسين المعرفة التي لا تكون نهائية أبداً".
يستنتج أبو يعرب: "لقد تحرّرنا من المعرفة التي تتصوّر أن الوجود شفّاف، وأن العقل يتجاوزه بصورة مطلقة وأن العلم نهائي. الفكرة الأساسية هنا هي أن العلم أصبح تاريخياً"، وهذا هو عمق الإضافة العربية الإسلامية التي تجاوز بها الفكرُ الفلسفي الإنساني الفكرَ اليونانيّ نهائياً.
الترجمة وتدريس الفلسفة
إلى جانب ممارسة التفكير الفلسفي، يشتغل المرزوقي على الفلسفة من مواقع أخرى مثل الترجمة وتدريس الفلسفة. على مستوى الترجمة، اشتغل على نصوص فرنسية وانجليزية وخاصة ألمانية، حيث قام بترجمة العديد من الأعمال الفلسفية لعل أهمها كتاب "المثالية الألمانية" في مجلدين. يقول: "لما شعرت بالتمكن باللغة الالمانية، بدأت في ترجمات كتب مهمة للعربية مثل كتاب "حوار الأديان" ليوسف كوشن، "الأديان من التزاحم الى التنافس" حول صورة الإسلام في عهد الأنوار في أوروبا من خلال الأديب ليسنغ".
أما على مستوى تدريس الفلسفة، فيعلم المرزوقي كغيره صعوبات هذه المهمة. ويرى أن "تدريس الفلسفة يحتاج إلى مشروع وطني، فالفلسفة عند اليونان كانت مشروعاً وطنياً يونانياً لتأسيس حضارة تقارن نفسها بحضارات أخرى وتتجاوزها (بابل ومصر). والمشروع الأوروبي كان تحدّياً يردّ على تحدّي العالم الاسلامي الذي يرونه غازياً. اليوم، لا يوجد مشروع عربي حضاري. والحلول الجزئية فشلت. لا توجد اليوم دولة عربية قادرة على مشروع حماية لشعبها".
يقسّم المفكّر التونسي مشروع الحماية بين حماية مادية وأخرى روحية، ويقول: "المعرفة العلمية في التاريخ البشري إلى اليوم مرتبطة بالمسألة الروحية (الدين والثقافة) وبالمسألة المادية (الدفاع والاقتصاد)". ومن هنا يأخذ موقفاً نقدياً من تناول العرب للحداثة، حتى أن هذا التناول أصبح "يقف حائلاً أمام مشروع حضارة واثقة من نفسها، لا حضارة تتصوّر أن تقدّمها يتمثل في تقليد غيرها". لذلك "تريد نخبنا أن تعيش مثل الأوروبيين استهلاكاً دون امكانيات الأوروبيين التي هي ثمرة المجتمع المنتج".
في نقد النخب
يقسّم المرزوقي النخب العربية "بين أصلانية دينية وأصلانية علمانية، جعلت من الوطن العربي فضاء لحرب أهلية شرسة"، حيث يتعصب كل حزب لمواقفه ويسقط الجميع في حلقة مفرغة. ويشبّه المرزوقي "النخب، في كل عصر وحضارة، بالدونكيشوتية. رمز الفروسية الوهمية في النزال والجدال، والتي تشوّش على فعل التاريخ الحرّ والمستقلّ بتعطيل الإبداع وتشجيع التقليد، إما للماضي الذاتي أو للماضي الأجنبي".
لعل هذا الرأي قد عبّر عنه سابقا، بأكثر حرارة، في كتاب "العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني" حيث كتب: "تأتي النخبة الفكرية لتمسك بآليات القمع الوقائي الحائل دون كل حياة. مافيا من الإعلاميين والأكاديميين والنقاد المزيّفين ينصّبون شعراءً وعلماءً وكتاباً مزيّفين".
سألنا المرزوقي عن مشروعه الفلسفي، ففاجأننا بالإجابة "ليس لديّ مشروع فلسفي، ومن يريد أن يقدّم مشروعاً فلسفياً الآن، ما يزال يعيش في مفهوم للفلسفة يعود إلى ما قبل هيغل". يشرح هذه الفكرة قائلاً: "الفلسفة بدأت مع أفلاطون وانتهت مع هيغل، لم يعد هناك فلسفة بالمعنى التقليدي بعد هيغل. أي أن طبيعة الفلسفة قد تغيرت".
يرى المرزوقي أنه "بعد هيغل، فهمت الفلسفة بأنها مشروع مستحيل". يضيف: "هيغل قال بانتهاء التاريخ، غير أن ما انتهى هو الفلسفة. انتهت كنسق مستقل عن المعرفة العلمية والممارسة السياسة والاقتصادية، وهذه النهاية عبّر عنها تلاميذ هيغل وخاصة ماركس. لم يعد هناك نسق، وانما قراءة فلسفية للممارسات الإنسانية، ثم جاء نيتشه فذبحها من الوريد إلى الوريد، وقال: ليس هناك فلسفة، هناك نوع من مواقف مناظرية، أي حسب النظرة"..
بعد أن يُسقط مفهوم "المشروع الفلسفي"، يفضّل المرزوقي الحديث عن غايات لمنجزه الفلسفي. يقول: "أولا، أريد تحقيق عمل نقدي للتراث الفكري. ثانيا، أحاول وضع اقتراحات إصلاحية لإعادة بناء الأمة".
يعتبر أبو يعرب نفسه محظوظاً لأنه شارك -أحياناً فعلياً وأحياناً فكرياً- في ثورتين، "الأولى هي ثورة التحرير الجزائرية، بجمع المساعدات عندما كنت شابّاً؛ والثانية هي الثورة التونسية بالتظاهر والكتابات والمشاركة في الحكم. وهذا ما يجعل مقترحاتي ليست فقط كلاماً نظرياً وإنما كلاماً مبنياً على تجربة. أي أنني على نهج ابن خلدون أنظر للمسألة السياسية والاجتماعية عن دراية بعد ممارسة".
مُنظّر الاستئناف
من هنا يقودنا المرزوقي نحو اشكاليته المفضلة : سؤال "شروط استئناف الدور التاريخي للعالم الإسلامي" فبعد أن "حرّر الاسلامُ الإنسانية من الطاغوت اللاهوتي، كيف للشعوب الإسلامية أن تحقق اليوم تحرير الإنسانية من الطاغوت الناسوتي؟ أي تحرير العالم الطبيعي من التهديم المادي ومثاله الأبرز تلويث البيئة الطبيعية، وتحرير العالم الخُلقي من تلويث البيئة الثقافية".
وحين نطّلع على أعماله السابقة نكتشف أن هذا الهاجس، الذي تبلور في السنين الأخيرة، ظهر في زمن متقدم من كتاباته. ففي سنة 1991 أصدر كتاب "الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر"، ويقول عنه "استناداً على نموذج الاجتماع النظري الخلدوني حاولت أن أستنتج ما الذي يمكن أن يكون عليه العرب". بدت له "كل الأنظمة العربية ديكتاتوريات عسكرية ومافيات اقتصادية، وكل المعارضات رجال أعمال يتاجرون بالقضية". وبيّن أنه "لا يمكن للأمة أن تستأنف دورها التاريخي إلا إذا ثارت على هذه الوضعية. فيصبح المعارض بنّاءً وليس تاجراً، ويصبح الحاكم في خدمة الشعب وليس مافيا".
"من يكتب مثل هذا الكلام يصبح مغضوبا عليه"، وهو ما دفع ثمنه الفيلسوف التونسي بسنوات من التهميش في بلاده، حيث اقتصرت مشاركته في الحياة العامة على التدريس، ولم يفلت من هذا الوضع إلا حين غادر للتدريس في ماليزيا سنة 2000. قبل أن تعيده الثورة التونسية ليمارس دوره على أرض الواقع بالمشاركة في المظاهرات الشعبية، وإلقاء المحاضرات العامة ثم المشاركة في الحياة السياسية.
إن المساهمة الأثيرة على قلب المرزوقي في هذا الظرف هي البحث في شروط "استئناف العرب لتاريخهم الكوني". يعتبر المفكر التونسي "أن الثورة العربية الحالية هي ثورة تحرّر داخلي وخارجي. وهي ثورة تحرّر كونيّ لأن الاستعباد الداخلي والخارجي بلغا الذّروة التي جعلت الوطن العربي خاصّة والعالم الإسلامي عامة بؤرة الصراع الدولي من جديد، ومن ثم ففيه تعيّنت أدواء اللحظة الكونية الحالية".
ما يقف حائلاً أمام مشروع استئناف التاريخ العربي، هو "أنظمة الانقلابات العسكرية وأنظمة الانبعاثات القبلية؛ بعضها يدّعي الدفاع عن القومية والحداثة وبعضها يدعي الدفاع عن الإسلام والأصالة"، وهذه الأنظمة "تعامل الشعوب كقوة احتلال". وهي تتحالف مع النظام العالمي "فتمنع تنمية الأمّة المادية بضرب وحدتها الجغرافية بالدويلات المحميات والاقتصاديات التوابع، كما تمنع تنميتها الروحية بضرب وحدتها التاريخية بالفلكلوريات السياحية والنخب النوادل". ليبقى شرط الاستئناف هو "التحرّر من انحطاطين: الانحطاط الموروث عن ماضينا والانحطاط الموروث عن الحقبة الاستعمارية".
بنسق شبه يومي، ينشر أبو يعرب المرزوقي مقالات حول الشأن العام. دون أن يترك مشروعه في وضع "تفسير فلسفي للقرآن" وهو العمل الذي ينكب عليه منذ سنوات. يجتهد المفكّر التونسي لكي يدل شباب الأمة العربية والإسلامية في مغامرة التفكير والإبداع، ولقد كتب في إهداء أحد كتبه: "إلى كل شاب عربي طموح، يريد استئناف مغامرة الإبداع من رأس".