أعرب أبناء التيار السلفي الجهادي في الأردن، عن فرحتهم بخروج منظّرهم، عصام البرقاوي، الملقب بـ أبو محمد المقدسي، وهو واحد من أهمّ منظّري التيار على مستوى العالم، من سجنه في الأردن بعدما أمضى عقوبته كاملة من دون مراعاة. بعثوا برسائل نصية على الهواتف الخليوية، وفيها "يبشرون الأمة عامة بخروجه ويهنئون أتباع منهج التوحيد والجهاد خاصة، بخروج شيخ المنهج". ما أن استقرّ في بيته، وبعدما أنهى واجب الوفاء بزيارة قبر زوجته "أم محمد" التي توفيت خلال سجنه، من دون أن يؤذن له بحضور دفنها وعزائها، حتى زحف أبناء التيار، وغيرهم، من كل صوب وحدب، ليهنئوا ابن الـ 55 عاماً بالحرية. أما هو، فقد استقبل التهاني، وصمت، وهو الذي لم يصمت عندما كان سجيناً.
المتّهم والقاضي والسجن الدعوي
السجون كانت مُستقرّه، إذ قضى خلف قضبانها نحو 14 عاماً من سنواته العشرين الأخيرة، وهي التي ابتلعته منتصف يوليو/تموز 2011 لإدانته بـ"أعمال لم تجزها الحكومة، من شأنها تعريض المملكة لخطر أعمال عدائية، وتعكير صفو علاقاتها مع دولة أجنبية، وتجنيده أشخاصاً داخل المملكة بقصد الالتحاق بتنظيمات مسلحة وجماعات إرهابية".
تذوق السجن الأردني عام 1993، بعد إدانته الإفتاء بجواز العمليات ضد الاحتلال الصهيوني، رداً على مذبحة الحرم الإبراهيمي، وإمداده جماعة بايعته بالقنابل لتنفيذ الهجمات، وهي القضية التي عرفت إعلامياً بـ"بيعة الإمام". أصدرت محكمة أمن الدولة عليه حكماً بالسجن 15 عاماً، في حكم وصف بـ"القاسي" يومها، إذ تزامن صدوره مع توقيع الأردن معاهدة سلام مع إسرائيل.
حوّل المقدسي من محاكمته جلسات لنشر دعوته، يلقي فيها على الحضور، من قضاة ومحامين من داخل قفص الاتهام، دروساً عن "عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطواغيت"، وختمها بلائحة اتهام للنظام الأردني، ولمحكمة كتبها بعنوان "محاكمة محكمة أمن الدولة وقضاتها إلى شرع الله".
كما استغل محاكمته لنشر دعوته في السجن الذي دخله برفقة تلميذه آنذاك، أحمد فاضل الخلايلة، الشهير بـ أبو مصعب الزرقاوي، فكان السجن عاملهم الدعوي. أشرف فيه على تثقيف تلاميذه، وكتب رسائل عديدة تشرح دعوته، وخرج بعد قضاء نصف المدة ليعتقل مراراً بعد ذلك من الاستخبارات، ويسجن بشكل متفرق من دون محاكمة، كلما حصل حادث في الأردن وحتى في العالم، على غرار اعتقاله لإفتائه بمشروعية عمليات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
قاد المقدسي، دفة التنظيم توجيهاً وتأطيراً من داخل السجن، حيث لم تكن القضبان حائلاً أمام تمرير رسائله المكتوبة أحياناً، والصوتية حيناً أخرى، كما حدث عندما نبه في رسالة سربها في 26 مايو/ أيار الماضي، من استمرار القتال بين تنظيمي "الدولة الاسلامية في العراق والشام" (داعش) وجبهة "النصرة". لم يكتفِ برسالته تلك بالتنبيه، بل حاول التدخل لوقف القتال، مراسلاً زعيم "داعش"، أبو بكر البغدادي، وأيمن الظواهري.
دون الحلم وفوق الطموح
كان حلم المقدسي الشاب دراسة الشريعة في المدينة المنورة، ولأجل ذلك قطع عام 1981 دراسته للعلوم في جامعة الموصل، وهو في السنة الثالثة، وسافر الى المدينة المنورة ساعياً وراء حلمه الذي لم يتحقق فيها، لكنه أنكب هناك سنوات على مطالعة ما حوته مكتبة المسجد النبوي، واحتك بالمشايخ وطلبة العلم ممن أقروا بنبوغه، وكانت ثمرة تلك السنين "ملة إبراهيم"، أولى كتبه.
غادر المدينة المنورة نهاية الثمانينيات، ليستقر متنقلاً بين باكستان وأفغانستان، حيث التحق بالمعهد الشرعي لـ"القاعدة"، وعرف قياداتها أيمن الظواهري، وأبي عبيدة البانشيري وأبو حفص المصري، وغيرهم كثير.
بقي هناك طالب علم ومعلماً يحض على الجهاد، من دون أن يخوض ساحاته، كما يؤكد مطّلعون على حياته، حتى استقر به المقام عام 1992 في الأردن إلى يومنا هذا، داعياً ومنظّراً، لمع نجمه في التحريض على الجهاد "في أي مكان تتوافر فيه الشروط"، من دون أن يشارك بنفسه مئات وربما آلاف الذين استجابوا لدعوته.
خلاف التلميذ والمعلم
كفّر المقدسي غالبية أنظمة الحكم، وفي مقدمها النظام السعودي، لكنه أخذ على تلميذه أبو مصعب الزرقاوي، الذي أصبح قائد تنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين"، والذي قُبل في يونيو/حزيران 2006، غلوّه في التكفير والتوسع في إجازة العمليات الاستشهادية، وقيل يومها إن الشيخ المقدسي "راجع نفسه، لكن تلميذه لم ينصت وخرج عن طوع المعلم، ما ترك أثراً في نفس المقدسي"، كما يقول مقربون منه.
المقدسي، يصمت اليوم بعدما ودّع السجن، وهو يدرك إمكانية العودة إليه في أي وقت، لكن الأكيد بأن صمته لن يطول، في ظل صخب أتباعه في المنطقة، وتنامي الخلافات بينهم.