أبو عمار ووجع الغياب

13 نوفمبر 2015
+ الخط -
يعيش الإنسان في حياته مفارقات عجيبة، وتغيرات قد تطال كل شيء، حتى فكره أو مواقفة، فكل شيء قابل للتغيير في عصر يرفض المسلمات والثوابت. ومن المفارقات التي لن أنساها، موقفي من الرئيس الراحل ياسر عرفات رحمه الله. ففي الوقت الذي كنت أمزق فيه صورته مع أقراني إبّان توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 عند ناصية المخيم، وكنا أطفالاً لم نبلغ الحلم بعد، وصولاً إلى زيارته مع أقراني في مقر المنتدى والتقاط الصور معه، انتهاء بخبر استشهاده في 11 نوفمبر 2004 والذي شكل صدمة لشاب مثلي، لم يتخيل يوماً أن مثل هذا الرجل قد يموت فجأة ، أنه تجذر في كيان كل فلسطيني بشكل كبير، ثم بكائي عليه، وخروجي في مظاهرة حاشدة مع من يخالفونني الهوية الحزبية والرأي أيضاً، لنعلن أننا على عهد ذلك القائد، مهما كان الاختلاف في المواقف السياسية.
نحتاج اليوم للاعتراف أن الحالة الفلسطينية أصيبت بنكسة، عقب وفاته، حيث صارت في مهب الريح، خصوصاً بعد وصول السلطة لقيادة مترهلة منقسمة على ذاتها، وصولاً إلى الانقسام والاقتتال الفلسطيني الداخلي. وهنا، كان لا بد من التساؤل: هل حقاً أصاب الرجل، وهل إخفاقاته تسمح لنا بنكران الجميل؟
دخل أبو عمار مقر الأمم المتحدة بسلاحه الشخصي في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1974، وقال بملء الفم: لا تسقِطوا غصن الزيتون من يدي. وكأنه كان يعرف أننا إن أردنا السلام يجب أن نكون مستعدون جيداً للحرب، ومؤكداً يومها أن القضية الفلسطينية تدخل ضمن القضايا العادلة للشعوب التي تعاني من الاستعمار والاضطهاد، ثم مناشداً ممثلي الحكومات والشعوب لمساندة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والعودة إلى دياره.
ومروراً باتجاه الهبات الجماهيرية وانتفاضة الأقصى، فقد كان الزعيم الراحل أبو عمار يوعز لرجالات المقاومة بالرد على الاعتداءات الإسرائيلية، ولقد تحمل تبعات ذلك الأمر من حصار طويل داخل المقاطعة في رام الله، ثم الاغتيال بالسم، وهو يعلنها: بل أقول لهم شهيداً شهيداً شهيداً.
أطلق أبو عمار العنان للمقاومة بالذود عن الأقصى إبان اقتحام إرييل شارون باحات الحرم القدسي الشريف في سبتمبر/ أيلول 2001، وهو يهتف علانية: ع القدس رايحين شهداء بالملايين. ولم يخنع فيما بعد لتوقيع اتفاقية تتنازل عن حق اللاجئين في العودة لديارهم. ففي كامب ديفيد وفي النصف الثاني من شهر يوليو/تموز 2000 تم عقد قمة ثلاثية جمعت عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك والرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، في منتجع كامب ديفيد لبحث قضية القدس والمستوطنات واللاجئين، وانتهت القمة بعد أسبوعين بالفشل، لعدم التوصل إلى حل يمنحنا شيئاً من حقوقنا، وعاد أبو عمار مؤمناً أن المفاوضات لن تجدي نفعاً مع الصهاينة، وربما لو كان الأمر بيد من يملكون السلطة اليوم لتنازلوا عن كامل حقوقنا بلا أي حياء معلقين هزائمهم بمبررات واهية.
ترك أبو عمار داخل بيته قطعة سلاح، ليقول لأبناء فتح قبل أي فصيل آخر: البندقية الواعية هي الضامن الحقيقي للقضية الفلسطينية، ولا يجب أن تسقط بأي حال، فلا يمكن للمفاوضات أن تحرر شبر من الوطن، وإنما القوة والضرب بيد من حديد لكل غاشم ومجرم.
ربما لم ترق رسالة أبو عمار بالأمس لأرباب السلطة، فالرسالة كانت واضحة، بعد أن تم تسليم حركة حماس منزله في غزة إلى مؤسسة الشهيد ياسر عرفات، وهي قطعة سلاح صغيرة رفعها القائد الفتحاوي زكريا الأغا أمام عدسات الكاميرا، كأنها تقول غير ما يقوله رئيس السلطة اليوم. فشتان بين من كان يمنح المقاومة الحرية للرد على الاعتداءات الصهيونية ومن يوصي باعتقال قادة كتائب شهداء الأقصى والقسام والسرايا في الضفة الغربية لتثبيت سياسة الخنوع والرضوخ للمحتل تحت حجج واهية، بدلاً من وقف التنسيق الأمني والسماح لأبناء الأجهزة الأمنية بالرد على اعتداءات المستوطنين وجنود الاحتلال.
ربما أخفق عرفات في مواقف وقرارات كثيرة، تحمل الكثير الكثير محاولاً الوصول بالقضية إلى بر الأمان، فاستحق بجدارة الاحترام والحب ليصير رمزاً لكل فلسطين.

32A42304-18CB-46A3-BEBC-6540B69AA29F
32A42304-18CB-46A3-BEBC-6540B69AA29F
يسري الغول (فلسطين)
يسري الغول (فلسطين)