تكتسي رحلة أبي طالب خان التي قام بها عام 1799، انطلاقاً من الهند إلى العراق وتركيا وإنكلترا وفرنسا أهمية خاصة، لأنها من الرحلات القليلة في زمنها، التي تنطلق من جغرافيا معاكسة، أي من الشرق إلى الغرب، على خلاف ما كان معروفاً وقتها من الزخم الشديد لرحلات الغربيين، الذين كانوا يتدفقون على بلاد المشرق العربي أو الشرق الأقصى والأدنى.
والركن الأساسي في هذه الرحلة هو كفاءة صاحبها واندماجه، خصوصاً وسط الطلائع الأولى للنخبة الإنكليزية التي وصلت إلى الهند، قبل أن تقع البلاد بعد ذلك تحت ما يسمى "الراج البريطاني" أو الحكم البريطاني منذ عام 1858.
ولكن قبل نصف قرن من ذلك، سيقوم أبو طالب خان برحلته تلك إلى من ستصير مستعمره، ذلك التاجر المقنع، الذي سيشهر مدافعه في أكبر مذبحة في شبه القارة الهندية خلال القرن التاسع عشر.
يبدو أبو طالب من أسرة عريقة، تلاطمتها الأمواج، ورمتها من بلاد إلى أخرى، قبل أن يقر القرار في الهند، يكتب في مقدمة الرحلة معرفاً بنفسه "أحسب أن من الواجب عليّ أن أحدّث القارئ بعدّة خصوصيات من تاريخي قبل أن أقص أخبار رحلتي، فوالدي كان يسمى حاجي محمد بك خان، وكان تركي الأصل مولوداً في أصبهان ومنذ شبيبته اضطره بغي نادر شاه أن يهاجر إلى بلاد الهند وفيها أحسن استقباله وتلقيه النواب أبو منصور خان.
ولمَّا تُوفي نويل راي حاكم رستاق أوده نال منصبه المهم محمد قلي خان ابن أخي النواب، وصار والدي من المقربين عند هذا الأمير ثم مات أبو منصور خان النواب سنة 1167 الهجرية أي سنة 1753 الميلادية وخلفه في منصبه ابنه شجاع الدولة، ولكنَّه كان يغار من ابن عمّه محمد شجاع فأمر باعتقاله وقتله، وعمَّت قسوته حتى أتباع الأمير القتيل، فأراد أن يقبض على والدي مع أنه كان قد اعتزل الأعمال قبل وقوع هذه الكارثة هو وعياله في لكنو.
ولما علم بمقصد النواي التجأ إلى البنغال مع أفراد من خدامه، وأعجله سفره السريع عن أن يأخذ معه شيئاً غير ذهبه وجواهره فبقيت أمواله تحت حكم مضطهده، وقضى والدي عشر سنوات في البنغال، ثم مات في مقصود آباد سنة 1768 الميلادية.
وجدّي لأمي أبو الحسن بيك كان رجلاً زاهداً عابداً صيناً ديناً، وكان من بلد النواب برهان الملك سعادة خان جدّ الملك الذي يحكم في أيامنا هذه بأوده، وكان جد مخلص لهذا الملك حتى اعتزل الأمور كلها بعد وفاته ليقضي أيامه الباقية في الاعتزال.
وولدت أنا في لكنو ومع ما كان يحمله النواب شجاع الدولة على أبي من الحقد أعان والدتي عدة معونات من أجل ذكرى العلاقات الاجتماعية التي كانت بين أسرتينا وأوصى والدتي إيصاء، مصروحاً بأن تسعى في تعليمي تعليماً حسناً وتثقيفي، وكان والدي لمَّا عزم على الإقامة في البنغال كتب كتاباً إلى أمي يدعوها إلى الانتقال مع الأطفال جميعهم فتركنا لكنو وسافرنا برّاً إلى بانتالا ومنها أبحرنا إلى مقصود آباد وهذه أول سفرة سفرتها وكان عمري إذ ذاك أربع عشرة سنة".
عن أهمية هذه الرحلة، ومركزيتها في أدب الرحلة الشرقية والعالمية عموماً، يؤكد مترجمها مصطفى جواد أنها رحلة فريدة، تتميز بدقة الملاحظة، ووفرة المعلومات، والقدرة على التوصيف الدقيق للأجواء التي عاشها، ومخالطة صاحبها لعلية القوم، خصوصاً في إنكلترا، وتمكنه من اللغة الإنكليزية علاوة على اللغات الهندية والفارسية، وهذا ما جعل الغربيين يهرعون إلى هذه الرحلة، ويترجمونها إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والهولندية.
يقول مصطفى جواد عنه "رحلة أبي طالب خان من نوادر الرحل في العالمين في موضوعها وأسلوبها وبراعة كاتبها وشمول ملاحظاته، فالمألوف في عصره وقبله وبعده أن الأوروبيين كانوا يسيحون في بلاد الشرق ويكتبون في وصفه رحلاً وفي آثاره كتباً، ولا نزال نتسقط أخبار الشرق المتأخرة من رحل الأوروبيين فيه وخصوصاً أخبار العراق.
أمَّا أنَّ شرقياً يسيح في بلاد أوروبة ويصفها هذا الوصف المسهب فيه، المحتوي على كلِّ غريب وطريف، فضلاً عن التأريخ السياسي الذي عاصره الرحالة، فهذا من أندر النوادر في عصره ولذلك أسرع الإنكليز والفرنسيون والهولنديون إلى ترجمة الرحالة إلى لغاتهم، لوجدانهم فيها أوصافاً ومباحث وأموراً خاصة ببلادهم لم يجدوها عند كتَّابهم ورحاليهم، فإنَّ أبا طالب كان نافذ الملاحظة، منعم النظر، مثقفاً ثقافة شرقية عالية، قلَّما يفوته ذكر شيء ممَّا وقع عليه بصره أو تناوله في أثناء السياحة فكره.
وستبقى رحلته مثالاً لتأليف الرحلات والاستقصاء والشمول، ولقد أحسن تنظيمها وحبكها، والظاهر لنا أنه كتبها مذكرات منفردة فلمَّا عاد إلى بلاده رتَّبها ونظَّمها وأحسن تأليفها، وأحال عند الحاجة إلى الربط بين أجزائها وأنبائها على ملاحظات متأخّرة قبل أن يلاحظها، كما أحال على ملاحظات متقدّمة لاحظها، ففي الأوليات دليل على أن التأليف وقع بعد الارتحال".
وقد تحدث أبو طالب خان هو نفسه عن مخالطاته لعلية القوم في لندن، والسهرات التي يحضرها، حتى إن العديد من نساء الوجاهة والقيافة كن يدعونه إلى أمسيات صاخبة، وقد كان يجد في ذلك المسرات التي يحب، كما أن لطفه وظرفه منحاه تذكرة الدخول إلى البيوت من أبوابها بسرعة كبيرة، وبالتالي إلى قلوب أصحابها.
وهو يقدم بذلك صورة مفصلة عن مجتمع النخبة الإنكليزي، الذي كان غارقاً في الملذات منصرفاً إليها، يكتب مثلاً "وبعد رجوعي إلى لندن قدمني أصدقائي، عوداً على بدء، إلى أحسن الجماعات، فكنت أقضي في الغالب أمسية في كل أسبوع في دار المستر (بلودن) فهذا الرجل الفاضل أقام برهة طويلة في بلاط لكنو بالهند، وشركة الهند قدرت خدمته أحسن القدر ثم جعلته في منصب من مناصب مديريها.
والسيدة (بلودن) تأخذ بمجامع القلب، وملأى نشاطاً، وإذ كانت الدار معنية بالموسيقى كانت الاحتفالات مصحوبة دائماً بالرقص والعزف الموسيقي، وقد تهيَّأ لي سرور التعرف إلى عدَّة سيّدات محبّبات ولا سيَّما الآنسة (هايد) والسيدة (أنستروثر)، إنهما تغنيان وتمثلان القوميذيا (الكوميديا)".
في حضرة الليدي ميتكالف
سيحصل الوافد الجديد على المجتمع اللندني على فرصة معرفته من الداخل، وسيجد الطرق مفتوحة له، خصوصاً أنه تعرف من قبل على عادات الإنكليز وثقافتهم، وأسلوب مرحهم، ولا ينسى أبداً أن يرصد مظاهر التحرر في هذا المجتمع، التي يعتبرها فحشاً وفجوراً.
يكتب مثلاً عن المجتمع النسائي في لندن "ولطفت بي الليدي ميتكالف بدعوتها إياي إلى عدة مباهج، وفي يوم من أيام الصيف، كانت الجماعة تشرب الشاي تحت شجرة كبيرة، وكان معنا الآنسة (هوسي) والآنسة (تيلور) وعدة نساء أخريات فاتنات، وكان الحديث محتدماً، فأعلمتنا الليدي (ميتكالف) أن الشجرة التي كنا قعوداً تحتها عالية جداً، وإن كانت الأشجار من نوعها كثيفة الأغصان غالباً، فهي قصار صغار، فأجبت في الحال، بأن هذا لم يكن قط مستغرباً وأني لو كنت في الغالب مثلها لي شرف رؤية الآنسة (هوسي) بالقرب مني لافتخرت ورفعت رأسي أكثر مما هو عليه، فأخذ كل منهم يضحك وامتدحوا ظرافتي.
في وصف لندن
يصف لندن ومعمارها، يكتب "وقد قلت سالفاً إن لندن في حقيقتها ثلاث مدن، المدينة العتيقة وويستمينستر والفوبورك أي الربض. فالمدينة العتيقة مسورة قديماً ومحصنة وهي اليوم محلة مشهوري التجار وكبارهم ولها قضاء خاص بها ويحكم فيها قاض يلقب بلقب "اللورد المير" أي اللورد شيخ البلد، وهو ضرب من ضروب الحكام الأكابر، ودونك المجلس التأسيسي للمدينة العتيقة على التقريب: كل أرباب الفنون الذين نالوا الأستاذية والملاك الذين نالوا لقب "البورجواز" أي أهل الحضارة.
وكان في بعض العصور اختيار رؤساء الأسر في كل محلة لتأييد آرائهم ممثلين يدعون "مستشاري المدينة" ويسمى ستة وعشرون منهم باسم "الديرمان" أي موظف كبير في البلدية، فكل الديرمان هو قاضي محلة من المحال أو رستاق خاص من المدينة، وهو الضامن للتنظيم السليم، وله أن يدعو البلديين في محلته إلى إعانته دعوة رسمية إما لاستشارتهم وإما لتهوين الاضطراب، وجميع الخصومات أي الدعاوى الموجزة، ترفع إليه ليقضي فيها، ومنصبه يدوم طوال حياته.
وهذه طريقة انتخاب اللورد شيخ البلد، ففي بعض أيام السنة يجتمع كل أهل الحضارة أي البورجواز في عمارة واسعة تدعى "كومون هول" أي البهو العام وبعد أن يختبروا المواهب المشتركة لجميع الألديرمانين يختارون اسمين ويبعثون بهما إلى مجلس الألديرمانين وهم ملزمون أن يختاروا اللورد شيخ البلد للسنة القابلة، ويقدم اسم أحد الرجلين المختارين أهل الحضارة المذكورون".
مساوئ الإنكليز
يعدد أبو طالب خان محاسن الإنكليز حتى يضعهم في القمة، ثم ينبري في تعداد مساوئهم، حتى يضعهم في الحضيض، وهو من كل هذا يريد أن يكون محايداً في نظرته إلى هذا المجتمع الغريب عنه، يكتب بصدد مساوئ الإنكليز "فالعيب الأول الذي لحظته من الإنكليز هو قلة دينهم وميلهم إلى الكفر، وهذا العيب في مبادئ سيرتهم الاجتماعية جد ظاهر متوافر بين أفراد الشعب، الخليين من كل شعور بالحياء ومن الصلاح.
صحيح أنهم يتجنبون حق التجنب خرق القوانين، خوفاً من أن يعاقبوا، ولكنهم إن يجدوا فرصة ارتكاب شيء من غير أن يعرِّضوا أنفسهم للفضيحة يعرفون كيف يستفيدون من ذلك الارتكاب، فهم يحاولون دائماً أن يسلبوا الأغنياء ما عندهم.
وعيب الإنكليز الثاني الكبرياء الوقاح، فهم لعتوهم بقوتهم لا يخشون الشدائد، ولا يجتهدون في الاحتياط قبل حلولها، أما عوام لندن فقد هاجوا قبيل أيامنا هذه من أجل الزيادة الفاحشة في الضرائب، وغلاء أسعار البضائع، ولكن الحكام استطاعوا بتيقظهم أن يشتتوا هذه الجمهرات، من غير أن يتخذوا شيئاً يزيل جرثومة الضرر.
فمن الناس من يقول: إن ذلك لم يكن إلا فتنة أحدثها الصناع للحصول على أكثر من أجورهم، ومنهم من يقول إن هذا الضرر لم يكن له علاج، ولم يقولوا غير ذلك، ومنشأ ذلك الثقة العمياء التي وضعها الإنكليز في سعادتهم، تلكم الثقة التي تختلف كثيراً عن كبرياء الهنود وكبرياء الفرس.
والعيب الثالث من عيوب الإنكليز هو إفراطهم في حب الثروات. والوضاعة التي تصحب البخل في العادة كافية في جعلها بغيضة كريهة، ويلام الإنكليز على حبهم الراحة ولكن هذا العيب لا يماثل البلادة التي تصيب المدَّخنين بالأفيون في بلاد الهند وفي القسطنطينية، فإنه وحده يجعل تقدم الإنكليز وترقيهم في العلوم وتحليهم بمجاملة أصدقائهم من الأمور المتعذرة عليهم.
العيب الرابع فتحسب أن لهم أعمالاً متراكمة يجب عليهم القيام بها، مع أنَّ أكثر الذين أعرفهم في الجهة الغربية من لندن ليس لهم، على التقريب، من شغل. وبعد الغداء يشتغلون ساعة أو ساعتين، ولكن عامة اليوم يقضونها بالزيارات.
والعيب الخامس في أخلاق الإنكليز هو سرعة غضبهم واغتياظهم، وهذا الميل إلى الغضب يبعثهم في الغالب على مخاصمة أصدقائهم ومعارفهم بغير باعث ولا سبب، غير أن الأجانب قلما يشكون منهم هذا الخلق، ولما كان المجتمع لا يستقيم وجوده إلا على التعاطف والتسامح كان حب الخصام في الغالب مبعثة على البغضاء والتنافر بين أقرب الأقرباء.
ومن عيوب الإنكليز "وهو العيب السادس" تضييعهم القسم الأكبر من أوقاتهم بالنوم والطَّعْم وارتداء الملابس.
ومن عيوبهم "وهو العيب السابع" ولعهم بالتجمل العام، فانظر إلى أدوات مطابخهم وأثاث مثوياتهم الغالي الأثمان، وخزانات أدوات طعمهم مملؤة من مصوغات الفضة، وموائدهم تنوء بالغضار والبلور الصناعي الثمين، وسراديبهم مشحونة أنبذةً مجلوبة من كل جزء من أجزاء الأرض، وحدائقهم العامة وافرة وحياض الأسماك في دورهم وقصورهم.
والعيب الثامن من عيوب الإنكليز هو "الغرور".
والعيب التاسع من عيوبهم هو الأثرة وإنْ أضرّت بغيرهم كائناً ما يكون ذلك الإضرار، فهم يتخطون كل أمر ويقتحمونه لبلوغ مآربهم: كالخضوع والوضاعة، ولا يمنعهم شيء، ولا يكادون يبلغون مآربهم حتى يستشيطوا غيظاً من ضعف نفوسهم فتحل فيها الغطرسة محل الحقارة الآنية.
والعيب العاشر من عيوب الإنكليز هو الفجور والدعارة والفسق البالغة أقصى حدودها، ولا أتكلم بادئ ذي بدء وآثر ذي أثير على هذا الجمهور من النساء الفاركات أزواجهن، التابعات أخدانهن، ولا هذه الألوف من الفتيات اللواتي يزدرين كل شعور بالحياء ويعشن مع الرجال عيشة المخادنة والمسافحة، بل أتكلم على هذا العدد الهائل من الدور العامة للخواطئ.