أبو النار

02 يناير 2017
هذه ليست صورة "أبو النار" (جويل ساغيه/ فرانس برس)
+ الخط -

لمحتُ وجهَه واسمَه معاً على صورة صغيرة علقها أحدُهم أمام مدخل البناية الكبيرة العالية حيث أسكن منذ قرابة السنة. لقد أُلصِقت الصورة على عجل، وثمة بعض من الصمغ اللاصق تسرّبَ على حوافها الباردة. يبدو أن الذين ألصقوها كانوا على عجلة من أمرهم، أو ربما هناك الكثير من الصور لـ "أبو النار" ينبغي لصقها.

لا أعرف اسمه الحقيقي، ولا أعرف إن كانت له زوجة وأولاد أم لا. لم أسأل ناطور البناية عنه، إذ إنه غالباً ما يخبرني بأمور مهمة تخص البناية، ولا يبدو أن لصورة "أبو النار" أي شأن بهذه الأمور المهمة.

ما يبدو من الصورة أن صاحبها كان شاباً، بذقن سوداء خفيفة، وقبعة عسكرية. تحاول الصورة أن تقول، دائماً، كلما نظرتُ في وجه صاحبها، أن "أبو النار" قد استشهد، وأن الصورة هذه إعلانٌ وتذكرة وتقدير للشهيد.

مضى الصيف، ومضى الخريف، وحل الشتاء. ومع مرور الوقت كانت الصورة تتقادم، فيما أجزاء منها بدأت تختفي، وقد غطى غبار الزمن على تفاصيلها. شيئاً فشيئاً أخذت الصورة تتضاءل أكثر وأكثر، حتى اختفت أخيراً وانطفأت "نارُها".

حينما كنت أخرجُ في الصباح الباكر، كان وجه "أبو النار" أول ما يصادفني. لقد اعتدت عليه، وصرت كما لو أنه من واجبي، أن أرفع عيني إلى الصورة كلما مررت بها. كأنني حينها كنت أبادله السلام الصامت، أو ربما أسأله إن كان يودّ قول شيء ما يضيفه إلى صورته التي أخذت تمحي يوماً إثر آخر.

ولما كنتُ قد اعتدتُ على الوجه، لم أعد أفكر في ملامحه، وصرت أدير معنى الاسم "أبو النار" في رأسي، محاولاً إيجاد معنى عائلي أو عاطفي أو اجتماعي أو بيئي له. أن يكون أحدناً أباً للنار أمر يستحق الاهتمام حقاً. فنحن قد اعتدنا سماع أننا "من التراب خلقنا وإليه نعود"، لكن أن يكون المرء أباً للنار هو بمثابة أن يكون كائناً خارقاً ومصدراً لقوة أصلية. إنه بالأحرى الأساس والعماد لكل ما يليه ويعقبه ويثمر عنه. لكن الحقيقة أن "أبو النار" ظهر بعد موته ورحيله (شهيداً)، واكتسب قوة إضافية من غيابه. لم يكن، بالنسبة للمارة وسكان البناية وقاطني الحي، على هذه الدرجة من الحضور اليومي الدائم. لم يكن يحتاج إلى صورة عندما كان حياً يرزق. الآن تحوّل إلى كائن آخر، إلى صورة عامة، رغم صغرها، تبقى وتشير وتقول وتتكلم طوال الوقت، إنها صورة تجمد الزمن والحضور والمعنى في حالة واحدة مستمرة. الغريب أن "أبو النار" الحقيقي ظل مجهولاً بالنسبة لي، فيما صورته بقيت في ذاكرتي، كما لو أنها هي الوحيدة التي تحمل معنى حياته. صرت أفتقده بعد غياب صورته.


المساهمون