أبو الفضل جليلي: "الديجيتال خرّب كل شيء والرقمي ممحاة السينما"

03 نوفمبر 2018
أبو الفضل جليلي: اهتمام سينمائيّ بالاجتماع والفلسفة (فيسبوك)
+ الخط -
التقيته سابقًا عام 2008 في "مهرجان القارات الثلاث" في "نانت" الفرنسية، وكان مدعوًا إلى برنامج استعادة الأفلام الفائزة بـ"المنطاد الذهبي"، في الأعوام الـ30 السابقة، وله منها جائزتان عن فيلميه "قصّة حقيقية" (1996) و"دلبران" (2001).
لا تُعرض الأفلام الـ11 للإيراني أبو الفضل جليلي (1957)، إلّا خارج إيران، فهي ممنوعة في بلده. حين يسأله أحدهم عن أسباب المنع، يقول: "اذهبوا واسألوا من يمنع". وحين سألته أنا، أجاب: "أنا إنسان مؤمن مثلي مثل أهل بلدي. لكن، هناك أهل الشريعة وأهل الطريقة. أنا أحبّ الله بقلبي، كالخيّام وحافظ وسعدي". فما يُشغل بال جليلي من أسئلة وجودٍ وإيمان، يتجلّى في أفلامه.
في يونيو/ حزيران 2018، جاء إلى باريس تلبية لدعوة من منظّمي "مهرجان السينما الإيرانية"، فاعتنمتُ الفرصة لحوارٍ جديد معه بعد هذه الأعوام كلّها. فكان سؤالي الأول: "أين أنت اليوم؟ ماذا طرأ من تغيّرات عليك، وعلى سينماك، وعلى السينما الإيرانية؟". ابتسم قبل أن يردّ: "كنتُ أتوقع منك هذا السؤال. حين التقينا سابقًا، كنت تائهًا أرغب في السير من دون أن أعرف الوجهة. الآن، أبصر طريقي، وأحضّر نفسي للسفر، ووجهتي هي فيلم أريد تحقيقه. إنه مقصدي. كل ما مرّ بي خلال تلك الفترة الطويلة كان، من وجهة نظري، الرحلة التي تقودني إلى المقصد. يجب أن تكون هناك وجهة لكل فنان، هدف محدد، يحتاج إلى وقتٍ للتعرّف عليه أحيانًا، وأحيانًا أخرى لا يتطلّب وقتًا".
يتحدّث جليلي عن بعض تفاصيل فيلمه الجديد، وعن أسلوبه في الكتابة: "عادة، أكتب السيناريو مرات عديدة. نادرًا ما أرضى عليه، فأرميه. أحيانًا لا أرضى عليه أبدًا. لا أبدأ التصوير إلا عندما أكون على معرفة تامّة بهدفي. أودّ أن أُبدي المثاليات كلّها. أن أستوحي مثلاً رؤية الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ للعالم، فالطريقة العميقة لتفكيره مثالٌ لي. كان يرى ما لا نرى، ويحسّ بما لا نحسّ به. وأنا أرغب في لمس كل ما لا يُلمَس ولا يُحَسّ به".
أما عن التغييرات، فيتساءل "أيّها؟ هل نتحدّث عن زمن أحمدي نجاد مثلاً؟ لا توجد تغييرات في تلك الفترة. المشكلة تكمن في أن عليّ التفكير جيّدًا قبل الكلام، كي لا يُفسّر كلامي على نحو سياسي. لذا، لنتحدّث في السينما. هذا أفضل". هناك ما يفكّر بقوله، وهو ما لا يُقال في الدائرة الضيّقة للمخرجين: "لديّ انطباع بأن الحبّ الحقيقي، أقصد الحبّ الحقيقي للعمل، اختفى. سابقًا، كان المشتغلون بالسينما يعملون بحبّ. الآن، باتت السينما صناعة، مهنة لا حالة عشق. سابقًا، كانوا يعملون بشغفٍ كبير، واليوم باتت السينما مجرّد عمل، ومجرّد تقنية". يعود إلى عامل الزمن: "ما يُصنّع بالحب يحتاج إلى وقتٍ ويترك أثرًا وينتشر وتنطلق منه طاقة كبيرة. هذا يُدركه الجميع. الآن، لا نرى هذه الطاقة في إيران". السينما الإيرانية الحالية متوجّهة أكثر إلى "الثرثرة"، وإلى "طغيان الثرثرة على السينما الوجودية الفلسفية التأمّلية". أبو الفضل جليلي موافقٌ على هذا. يقول إن هذه السينما "لم تُقدَّم كما يجب إلى العالم، ولم تلعب الدور الذي عليها أن تلعبه". يقول أيضًا إنّ "ثقافتنا واسعة جدًا. لكن، منذ 40 عامًا، أصابتها جراح كثيرة. نحن نركّز على الثقافة العربية أكثر من الثقافة الفارسية، وهذا أوجد خللاً. لا نستطيع تحقيق فيلم عن كورش الكبير (أول ملوك فارس، الحاكم بين عامي 560 و529 قبل الميلاد)، أو عن حافظ وسعدي والرومي وكتاب الشاهنامة. لا أفلام من ثقافتنا. لا أحد يستطيع، ولا أحد لديه الرغبة أو الإمكانية لفعلها. لا يعطون تصريحًا. صحيح أن الإسلام ديننا، لكن ثقافتنا هي كورش العظيم". 
أضاف جليلي: "إذا أردنا اليوم تشجيع أحد لا نُصفِّق له كما كنا نفعل سابقًا، بل نتلفّظ بعبارات دينية. اختلط المذهب بالسياسة". لكن، هل غيّر رأيه إزاء إشارات سابقة له إزاء الدين والتصوّف؟ ينفي جليلي هذا، ويقول: "لا أزال أعتقد بالدين، لكنه في القلب. يجب ألّا يتحوّل إلى إيديولوجيا. إنه خاص، لكنه بات أمرًا سياسيًا اليوم". إذًا، هل أنّ جعفر بناهي ممنوع من العمل أم لا؟ "كلا. لكن القانون في بلدنا يعمل بالعواطف. يقول أحدهم شيئًا ما، وفي اليوم التالي يصرّح أحدهم بالعكس. رؤيتي للسينما مختلفة عن رؤية بناهي. إنه مهتمّ بالاجتماعي ـ السياسي، وأنا بالاجتماعي ـ الفلسفي".
وماذا عن السينما الإيرانية، ومشكلة الفيلم الإيراني؟ "يومًا ما قال لي منتج فرنسي إنهم يعملون الفيلم فور توفر القصّة. فكّرت بهذا، وقلت: نحن لا وقت لدينا للانتظار. علينا تحقيق الفيلم فورًا قبل أن تتغيّر القوانين. إيران بحرٌ هائج، علينا ركوب الموجة فورًا وعدم التوقّف. اليوم، لا يوجد تأمّل عميق في الموضوع ولا دراسة معمّقة. يريدون فقط إنجاز الفيلم وربح المال. سابقًا، كانوا يفضّلون إظهار تأمّلاتهم في الحياة ومدى غنى أفكارهم. اليوم يهتمّون بحبّ الظهور فقط. ثم أن الـ(ديجيتال) خرّب كلّ شيء. مثلاً، مع الـ(نيغاتيف)، نركّز انتباهنا كلّه على تحقيق اللقطة كما يجب. اليوم، مع التقنية الرقمية، يختلف الأمر، إذ نأخذ لقطات كثيرة. أشبّه هذا بالخطّ الفارسي. كان الخطّاط يضع رقّته ودقّته كلّها في خطّه. كان يصعب تعديل ما خطّت يداه. المشكلة تكمن في اختراع الممحاة. الرقميّ ممحاة السينما".
دلالات
المساهمون