شكّل باب سعدون، الشهر الماضي، قبلة عشرات الآلاف من التونسيين الذين توافدوا عليه للانطلاق في مسيرتهم الحاشدة إلى باردو رفضاً للإرهاب وتعبيراً عن وحدتهم، وقبله بأيام، كان قبلة شباب العالم من كل الجنسيات، الذين شاركوا في المنتدى الاجتماعي العالمي، تجمعوا حوله ليرفعوا أصواتهم بالنشيد وشعارات الانتصار لإنسانية الإنسان.
كان باب سعدون ولا يزال "سرة" العاصمة، والباب الأول للدخول أو الخروج إليها من زاويتها الغربية، فحوله بُنيت منذ عشرات السنين أهم مستشفيات البلاد على الإطلاق، يأتيها التونسيون كل يوم من كامل أرجائها، ومنه يتوزع الناس أيضاً في شأنهم اليومي إلى أعرق الأحياء وأقدمها، باب سويقة وباب العسل وباب سيدي عبد السلام وباردو الباي، والمركب الجامعي وحي التحرير الشعبي الذي بُني على هامش العاصمة، وأصبح أكبر تجمع سكني وشعبي فيها.
واستطاع باب سعدون أن يحافظ على مهمته ومكانته التاريخية منذ أُسِّس في نهايات القرن الرابع عشر (تختلف الروايات بين 1350 و1434) في عهد السلطان الحفصي محمد المنتصر. وتُنسب تسميته إلى سيدي سعدون، وهو رجل صالح يقال إنه كان يقيم بجواره.
غير أن الكاتب المتخصص في الرواية التاريخية، حسنين بن عمو، قال لـ "العربي الجديد" إنه كان من بين أصدقاء الولي الصالح سيدي أبي الحسن الشاذلي، ما يرفع من قيمته الدينية والتاريخية، وإن قبره ما يزال موجوداً إلى اليوم في محطة الحافلات المحاذية له إلى اليوم، وهي التي تشهد يومياً قدوم الآلاف من التونسيين الذين يفدون على العاصمة من مدنها البعيدة لقضاء شؤونهم.
ويؤكد أن الأولياء الصالحين كانوا يقيمون بالقرب من الأبواب لحراسة المدينة، وهو ما تؤكده الرواية الشعبية إلى اليوم، مضيفاً أن المكان كان مقبرة في السابق، وأن ما بين باب سعدون وباب سيدي عبد السلام كانت توجد "فسقيّة" كبيرة كان يُسقى منها عسكر الباي والدواب وبقية السكان، وأنه كان يُسار فيها بالزوارق الصغيرة لكبر مساحتها، ولكنها اندثرت الآن وبني عليها سوق سيدي عبد السلام ومعهد الفنون الجميلة الحاليان. ويضيف بن عمو أن الأعوان كانوا يتنصبون على الباب لقبض رسوم الدخول والخروج من المدينة.
وفي إشارة هامة، قال بن عمو إن باب سيدي عبد السلام نسف سنة 1958، ذات مساء عندما كان بورقيبة مارا بسيارته من مقر سكناه في اتجاه القصبة (مقر الحكومة)، وإنه أمر بنسفه لأنه كان متداعياً للسقوط وآهلا بالحشرات والأفاعي، وكان بورقيبة يريد مدينة حديثة ونظيفة.
وبالعودة إلى باب سعدون الحالي، قال بن عمو إن البناية الحالية ليست باب سعدون الأصلي الذي بُني في العهد الحفصي، فقد هدّم بدوره وبني الباب الحالي غير بعيد عن الباب القديم، من طرف الحماية الفرنسية. وكان باب سعدون أكبر من الحجم الحالي، وكان يمر من تحته "الترامواي" الذي يذهب في اتجاه باردو.
وحول مدينة تونس ومعمارها، قال بن عمو إن تونس كانت محروسة بسورين، سُور خارجي يحتوي على أبواب كثيرة منها "باب الخضراء" و"باب سعدون" و"باب عليوة" و"باب القرجاني" و"باب سيدي قاسم" و"باب الفلٰة". والداخلي يحتوي على أبواب عديدة أيضاً، منها "باب بنات" و"باب قرطاجنّة" و"باب منارة" و"باب جديد" و"باب سويقة" و"باب بحر" و"باب علوج". وتختلف الروايات بين أربعة وعشرين وثلاثة وعشرين باباً في مدينة تونس عموماً.
وبن عمو هو واحد من أبرز الذين كتبوا الرواية التاريخية، وصدر له "باب العلوج" و"باب الفلٰة" و"ريحانة"، وهو يعكف حالياً على كتابة رواية رابعة، وهي ثلاثية تؤرخ لطبيعة التغيرات التي طرأت على المجتمع التونسي. ففي "باب العلوج" وقع التطرق لبداية التغيير الذي رافق ظهور "العلوج"، وهم الذين اعتنقوا الديانة الإسلامية وتَرَكُوا المسيحية (عن مصلحة أو اقتناع) وكانوا من الحرس المقرب من السلطان الحفصي في حدود سنة 1415، وكانوا يقيمون في حيّ خاص هو "باب منارة"، وهي إشارة إلى التسامح و العلاقة المتينة التي كانت تربط بين المسيحيين والمسلمين.
و"رحمانة" التي كان يمكن أن تسمى "باب سويقة" هي بداية الاحتلال التركي لتونس واستنجاد الحسن الحفصي بالإمبراطور الإسباني، ثم "باب الفلة" التي تؤرخ لنهاية التواجد الإسباني والدولة الحفصية وبداية الوجود التركي.
وتبقى أبواب تونس شاهدة على تاريخها، مرتبطة بأحداث قديمة وحديثة تؤرخ لتاريخ البلاد، واستطاع التونسيون أن يحافظوا على بعضها ويجددوا أخرى، ولكنهم احتفظوا بأسمائها في ذاكرتهم الحية وبقصص كثيرة وأساطير شكلت جزءاً من تراثهم الشعبي العميق.