أبناء "الصفصاف" لا ينسون

30 سبتمبر 2017
+ الخط -
يُنسب لأول رئيس وزراء لإسرائيل، بن غوريون، أنه قال، بعد النكبة الفلسطينية في العام 1948، إن الكبار سيموتون والصغار سينسون. تبدو العبارة، غير الموثّقة نظرياً، موثقة واقعياً بالنظر إلى ما يحدث الآن، حيث أصبحنا ندخل أحياناً نقاشاتٍ بشأن بديهيات الأحداث التاريخية، لا التحليلات السياسية.
من هذه الخلفية، تأتي أهمية الفيلم الوثائقي البديع، "الطريق إلى الصفصاف"، الذي أذاعته شاشة التلفزيون العربي، والذي يروي قصة المهندس الفلسطيني، علي زيدان، الذي وُلد في مخيم عين الحلوة في لبنان، لكن كبار أسرته يحكون عن وطنٍ آخر، عن قريتهم الراحلة مع زمنهم الراحل، قرية الصفصاف شمال صفد.
بعد الاحتلال، تم تدمير كل منازل السكان الـ 900، باستثناء ثلاثة فقط، أحدهم تحول لمزار أثري إسرائيلي! وأقيمت على أنقاضها مستعمرة باسم "صفصوفا".
سطو مسلح على الأرض، وأيضاً على الاسم والتاريخ. وتعبير سطو مسلح ليس مجازياً.. شاركت القرية في ثورة 1936، وفقدت فيها خمسة شهداء، ثم شاركت في حرب 1948، وكان فيها المقر البديل لجيش الإنقاذ العربي قيادة صفد، واستغرق سقوط القرية معركة استمرت عشر ساعات.
بعد السقوط، تم إعدام كل ذكر بين 15 و55 عاما. قُتل سبعون من أبناء القرية، ودفنوا في مقبرة جماعية أو ألقوا بالبئر، وطُرد الباقون إلى لبنان.
هنا يأتي دور المهندس زيدان مع المهندس إسماعيل الشيخ حسن، بصبرٍ ودأبٍ لا ينتهي عبر سنوات، تم جمع كل ذكرى وكل حرف من كبار القرية، ليتمكنا من عمل خريطةً تفصيلية لإحياء القرية المفقودة.. تظهر في الخريطة كل المنازل المهدومة، كل أسماء أصحابها الراحلين، مدرسة القرية، السوق، الجامع، البئر، الجدار الذي بناه أهلها لحماية أنفسهم من هجمات العصابات الصهيونية، مدفن شهداء ثورة 36 ...إلخ.
أحد من ظهروا بالفيلم مُسن من مواليد 1926، أحد الناجين من المذبحة، أشار إلى أماكن رصاصتين أصيب بهما في جسده..
صحيح أننا "لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق"، كما كان يقول غسان كنفاني، فلن يغير فيلم أو كتاب من موازين القوى، وصحيح أن الواقع قد يفرض تغيرات في المسار والسياسة. لكن في المقابل، لا يمكن التهوين من أهمية الحفاظ على المنطق والرواية الخاصة.
اليوم صرنا نضطر لأن نشرح لبعضهم أهون سقف ممكن، وهو القرارات الأممية الخاصة بحدود 67، وتقسيم القدس، وحق العودة، وهو ما أعلن العرب، مراراً منذ سنوات طويلة، في مبادرة السلام العربية وغيرها، قبولهم به، بينما مازال هناك من يعايرهم برفض قرار التقسيم 1948. ها قد وافقوا وأًصلحوا خطأهم كما تريدون، فلماذا لا توجهون سهامكم إلى الطرف الرافض اليوم وكل يوم؟
هذه البديهيات التي لا ينكرها الأميركيون والأوروبيون ودول في آخر العالم في أفريقيا وأميركا الجنوبية، أصبح بعض العرب لا يعرفونها اليوم. يقرّر الاتحاد الأوروبي وضع علاماتٍ على منتجات المستوطنات، والجامعات الأميركية تقاطع جامعات إسرائيلية، وتدين الخارجية الأميركية الاستيطان، بينما مجرد الموقف النظري يتراجع في بلادنا.
وهناك من يجادل في سقوط حق العودة بحلول أجيال لم ترَ فلسطين، متجاهلاً واقع وجود قانون عودة يهودي يمنح الجنسية لأي يهودي انقطع وجوده في هذه الأرض منذ آلاف السنوات.
من الحق أن نقول إن ركام السياسة طغى فوق القضية الفلسطينية، ألف زعيم خالد وألف جنرال طامح اتخذوها سلاحاً ضد شعوبهم وضد خصومهم السياسيين. ألف جولةٍ للنزاعات العربية العربية، والفلسطينية العربية، والفلسطينية الفلسطينية. والجميع يرفع القضية فوق أسنة الرماح.
لكن في المقابل لا يعني التسليم الكامل بذلك أنه لا توجد قضية أصلاً. أهمية الأعمال المماثلة لفيلم "الطريق إلى الصفصاف" أن تنزل القضية من فوق الرماح السياسية، لتعود إلى أصحابها الأصليين، الضحايا وأبنائهم، أصحاب الحق الذي لا يسقط بالتقادم. وإن تعذّرت استعادته اليوم، فعلى الأقل يُورث لجيل قادم قد يفعل.
وإذا كان الكبار سيموتون فإن الصغار لا ينسون.