آرولدو لو فلور، فرنسي مولود في بورغونيا. تخلّى عن جنّة عائلته وجاب الكوكب عشر سنوات دون وجهة محدَّدة قبل أن يصل هذه الأراضي. فرَّ لأن "النبيذ يصبح جزءاً من دمك ويقرِّبك كثيراً من الحقيقة".
قبل سنتين ابتاع بعض الهكتارات في "ماتا أتلانتكا" وهي قرية تبعد ساعة عن "إيتاكاري" وتقترب من "المياه الباردة". في العام الماضي أسّس شركة لصنع الشوكولاته سمّاها "أبراكادابرا".
لديه مزارع من النباتات والمحاصيل ويوزع طنَّين من الكاكاو في العام. وكضيف في "نزل ماندالا"، عرض أن يلقي محاضرة حِرفيَّةً عن صنع الشوكولاته على صديقاتنا وضيفاتنا الأرجنتينيات في النزل، "ماريا" و"إيفا" و"دولّي" و"بانيسا".
يسير آرولدو باعتدال، بلحية مهملة لم تحلق من عدة أيام وبشرة قاسية بفعل أشعة الشمس وبمظهر بدا عتيقاً بفضل مشاعر الحب والنِّسيان لأهله في فرنسا.
يجلس على المائدة، يأخذ نَفَساً، يضغط على شفتيه، تتقاطع قدماه الطويلتان ويتحدث بنبرة جديّة لها جرس عميق.
- بونسوار للجميع. للشوكولاته تاريخ...
يصمت ويلف سيجارته بيدين متمرِّستين. تبدو المائدة أكثر غرابة من عادتها. وتنتظر ضيفاتنا أن ينتهي من لف سيجارته.
لقد تخلى آرولدو عن كونه ابناً لمالك أراضٍ فرنسي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب؛ بل إنه قطع المحيط مطارداً وَعْدَ خارطة اشتراها من مزاد سرِّي، وهو يُبقيها أينما ذهب في محفظته تتلبَّسه روحٌ مستعمرة. سحب نَفَساً طويلاً من سيجاره وكان الورق المحترق يقطع الصمت، والسجائر تودِّع المغيب مع نشيدها الأخير.
يفتح آرولدو حقيبته ويخرج مدقّاً وكيساً مع بذور الكاكاو المحمَّصة ويضعها على المائدة. يتنحنح قبل أن يبدأ قصته بلغة برتغالية ولَكْنَةٍ فرنسية:
- كان الساحل المكسيكي ملك "موكتيسوما"، وكان أصحابه يركضون على الرمال، يضحكون ويلعبون غير آبهين، ثم شكّلتْ إحدى عشرة سفينة نقاطاً دقيقة في الأفق.
كان أمرها يشيع بين الناس كلّما اقتربت من الشاطئ. وحينما رسا إرنان كورتيس مع خمسمائة رجل مسلَّح، كانت جمهرة من الأزتيك تنتظرهم. في النبوءات القديمة كان المايا والأزتيك يتوقَّعون عودة الإله كيتساكواتل. قالها وهو يسحب نَفَساً.
وصل كورتيس وهو يهذي بسبب إصابته بحمّى البحر، كان يحمل تعب شهور على متن السفينة. كانت لحيته حمراء وكان يرتدي درعه ويحمل خوذته بيده، وكان المعدن يعكس أشعة الشمس. حين شاهده الهنود (السكان الأصليون) ظنّوا أنّه الإله.
خلع حذاءه وغسل جروح قدميه لكن بدا أن مرض الزُّهري قد نال منه.
كانت الشمس تهبط مقابل شبه جزيرة جوكاتان حين انفتحت الجمهرة وظهر الكاسيكي (زعيم القبيلة) غوايكايبورو كواتيموك الذي شعر بكارثة على وشك الحدوث قبل أن يتبادل أيّ كلمة مع أبناء قبيلته.
لقد رأى المصيبة مرسومة على الرمال.
- هذا الرجل بعينين زائغتين وجسد مريض لا يمكن أن يكون إلهاً. مدّ الكاسيكي يده لكورتيس وقال: جرِّب الكاكاو.
أخذ المُستعمر البذرة في يده وقلّبها بين أصابعه كعملة معدنية ثم وضعها في فمه. تعلّقت عيناه بعيني الكاسيكي، وحينما شعر بالطعم المر، أشار بيده إلى واحد من رجاله فاغتال الكاسيكي فوراً. وقع رأس الكاسيكي على الرمال وسقط الجسد المفصول بعده بعشر ثوانٍ. كان أبناؤه المائتان واثنان وأحفاده الخمسمائة والتسعة وأربعون شاهدين على ذلك. بعد عشر دقائق، أنعشت مادّة الإندروفين الموجودة في الكاكاو كورتيس الذي ظنّ أنه وصل الجنّة.
- وماذا فعل الهنود حين رأوا ذلك؟ سألت ماريّا.
نفث آرولدو سحابة من دخانه وأكمل بنشوة: من هنا لم يخرج أيّ إله.
لمس الفاتحُ الصليبَ الذي أهدته له الملكة إيسابيل وتأمّل بسعادةٍ الدم المُسال من الجثّة المشوّهة.
- من أين عَرَفْتَ هذه القصة؟ سألت دولِّي وهي تنظر إلى زميلاتها.
- كل قصّة كبيرة مبنية على تراجيديا بحجمها. أجاب آرولدو وهو يطفئ سيجارته في منفضدة السجائر.
- الشوكولاته هي الاستثناء يا عزيزتي.
يقلِّب مسحوق الكاكاو ويشرح أنه يجب طحن البذور المحمّصة في المدق. يضيف إليها زبدة الكاكاو من أجل خلق نسيج الكريما. يصنعها بدقّة وهو يشرح تفاصيل صنع الشوكولاته وكيف أن الشوكولاته الصناعية تخلط مع الزيت الهيدروجيني بدلاً من زبدة الكاكاو.
- هذه ليست شوكولاته، هذه براز.
يستمر وهو يشرح أن طفرة الكاكاو في القرن التاسع عشر اختفت عندما جفَّف نوع من الفطر جميع المزروعات وسبّب خسائر للمزارعين. واليوم توجد في منطقة الإلهليوسي في البرازيل ومحيطها أرضٌ قاحلةٌ ذات بيوت وضيعة فرعونية مسكونة بعائلات كانت يوماً من أصحاب الملايين، أما أبناؤها فهم فقراء جداً لدرجة أنهم يتسوّلون على أبواب الكنائس تحت الشمس. يشحذون النقود من السيّاح بكلِّ لغات العالم. يُنيرون الحنين في صدورهم بشمعدانات صدئة، وأيديهم مغطاة بقفّازات خَرمتها عثّة الوقت. يتسكّعون في الشَّوراع الكولونيالية مهملين الطرق الأرستقراطية ومُستبدلينها بـ"سامبا الحثالة".
يتشبّثون بالماضي بمخالب من ذهب. وفي الليل، أشباح ذراريهم تحوم فوق آلات التصوير القديمة التي تسيل منها بقع هي دموع جافة لألم عتيق، آخر الصور الفاخرة المعلّقة على جدران قصور تقشّرت بفعل النِّسيان.
- ألم يزرعوا شيئاً بديلاً؟ تسأل بانيسا.
- هذه هي الثمرة، القلب الذي تدار به كل العملية، يقول آرولدو وهو يرفع الكاكاو بين يديه. لو كانت الثمرة نبيلة فالشوكولاته كذلك.
يُعدّها بطقس احتفالي. يقسمها نصفين بفظاظةٍ موروثة ممَّن قطعوا رقبة ماري أنطوانيت في الثورة الفرنسية أثناء تقديمه البذور.
- ألا تزعجك الوحدة؟ تسأل ماريا وهي ترفع حاجبيها.
- وحدي في المزرعة، ينظر آرولدو نحو اللانهاية بعينيْ حالم. أتخيله في وحدته يستمع لإديت بياف وهو يصنع الشوكولاته.
يقدِّم لنا طبقاً مليئاً بألواح شوكولاته حديثة الصّنع. تأكل الصبايا لوحاً، اثنيْن وحتى ثلاثة. بعد قليل، يرقصن السامبا فوق المائدة. يبدو أن روحانية السِّحر الأسود تُسيطر عليهن. أرواح ديانة الكاندوبليه تأخذ الصبايا على حين غرّة وتحقن إيمانهن سمّاً غير مرئي في أقدامهن.
يختفي الجميع في ممرٍّ ضيِّق معتمٍ في "برايا دي كونشا". يضحكون تحت تأثير سحر الشوكولاته. آرولدو ـ ساحر الشوكولاته ـ يستدير ثم يبتسم ويقول بنظرة مُتأمّلة: أبراكادابرا.
* إدواردو بشارة بركات كاتب أرجنتيني من أصل سوري. "أبراكادابرا" قصة قصيرة من مجموعته القصصية "مخلوقات ماندالا".
(ترجمة عن الإسبانية: غدير أبو سنينة)