آنغ لي.. في مسألة علاج مرضى الحروب

22 مارس 2020
يشارك الممثل ويل سميث في الفيلم (فيسبوك)
+ الخط -
للحروب ضحاياها الكُثر. حين تشتعل نيران أيّ حرب فكأنها تقول: "هل مِن مزيد من الضحايا!". الحروب لها بطون لا تشبع. كيف يمكن تغذيتها إلا بوجود جنود يعملون على استمراريتها؟ لكن على شرط جديد، أن يكون هؤلاء الجنود بلا أهل، لا يتألم لموتهم أحد ولا يشعرون بالندم. لعل هذه نقطة يمكن الاعتماد عليها حين الحديث عن الفيلم الحديث للمخرج الأميركي من أصل تايواني آنغ لي "رجل جيميني" Gemini Man.

وهذه ليست المرّة الأولى التي يتناول فيها هذا المخرج التايواني (الذي حصلت أفلامه "النمر الرابض" و"التنين المتخفي" و"جبل بروكباك" و"حياة باي" على أكثر من جائزة أوسكار)، مسألة ضحايا الحروب من أكثر من جهة، إذْ يحضر موضوع الأمراض النفسية التي تحصل للجنود بعد عودتهم من أراضي التهلُكة، وتعمل على تدمير حياتهم. فقدهم لمسألة الثقة في النفس والتي ذهبوا وهم يحملونها وجميعهم على ثقة بأنهم يذهبون للمشاركة في معركة دفاعية عن قيم سمعوها وتشرّبوا بها. نجد هذا واضحاً في شريط آنغ لي السينمائي اللافت "النصف الأول الطويل من طريق بيلي لين" (2016). ونرى لاختلاف شكل حياة العائد من الحرب وعلاقته مع كل شيء حتّى في طريقة تعامله مع شقيقته الوحيدة وفي نسيانه للأشياء التي كانت تعشقها، بل وكيفية اختراعه لوسائل البهجة التي كانت تعمل على إسعادها. وفوق ذلك، نرى حالة العنف التي يمكن أن يُصدرها، هذا العائد، ضد أيّ أحد يقابله، وبلا سبب يحدث ذلك العنف، حتى ولو كان في مناسبة للاحتفاء بالعائدين أنفسهم.
ويُمكن هنا استحضار أكثر من فيلم جاؤوا على نفس الموضوع، لعلّ أبرزها "مولود في الرابع من يوليو" (1990) للمخرج أوليفر أستون، وبطله توم كروز حين يعود من حرب فيتنام مُعوقاً من الناحية الجسدية، وقد فقد قدميه، لكن الفقد الروحي هو الأعظم، ويظهر ذلك عبر تعامله مع القريبين منه، الأهل والأصحاب. لقد فقد حياته الروحية على نحو فعلي، ولو ما يزال على قيد الحياة. وقد بدت له المسألة، لاحقاً، كأنه ذهب لحرب لا شأن له بها، وعاد خاسراً كل شيء.
لكن بطل آنغ لي في "النصف الأول الطويل من طريق بيلي لين" يعود كاملاً من غير إعاقة جسدية، يعود سليماً. لكن الفادح في العودة، هو تلك الجروح التي صارت في القلب، ولا سبيل للشفاء منها. وفوق ذلك ما أتوا به من "أكاذيب" حملوها معهم من أرض المعركة (العراق)، حيث ذهبوا إلى هناك، حسب ما قيل لهم، لمعركة من أجل تدمير أسلحة الدمار الشامل، ليكتشفوا بأنها كانت معركة من أجل النفط. وحين عادوا إلى بلادهم أتوا حاملين ذلك الندم الكبير. وفي مسألة النفط ذاتها، تأتي نقطة ندم أكبر، حين يكتشف الجنود الذين ذهبوا من أجل مال قليل، يعمل على تسديد ديونهم، بأن شركات كُبرى تكسب من خلفهم أموالاً طائلة، بسبب حماية وتأمين ذلك النفط. بمعنى أنهم راحوا لتقديم حياتهم من أجل فتات. لكن وبعيداً عن قصة المال، يحاول آنغ لي في شريطه إيصال فكرة الموت المجاني التي تحصل للناس العاديين لأسباب غير مفهومة، أن يجد الجنود في أحد البيوت العراقية كتاباً يحمل صورة صدّام حسين. يُعتبَر هذا دليلاً على أن هذا البيت يعود لـ"المقاومة العراقية". قد يؤدي هذا لقتل من في البيت دون تفهم مسألة أن كل البيوت العراقية تحتوي على كتب تحمل صور رئيس حكمهم لسنوات طويلة رُغماً عنهم. ليحدث القتل والندم تالياً من بعد بيان الحقيقة.

على هذا، يبدو أن خيط الندم لم ينقطع وهو يعود ظاهراً، مرّة جديدة، في شريط آنغ لي "رجل جيميني" أو لنقل محاولة معالجة "مرض الندم"، وذلك عن طريق اختراع جنود في معامل "جيميني" الخاصة بتوليد كائنات على نسق النعجة الشهيرة دوللي لكن بشريّة هذه المرّة. كائنات لا تشعر بالألم أو الندم. هؤلاء سوف يلحقهم الموت، وقد تمّت صناعتهم كي لا يسأل عنهم أحد. لا عائلات ولا أُمهات يبكون عليهم حين ينتهون في أراضي التهلكة التي سيُرسلون إليها: اليمن والصومال والسعودية وأفغانستان والعراق... إلخ. كما وهم مصنوعون على هيئة لا تسأل من الأساس، تقوم بتنفيذ المهام المُلقاة عليها بلا نقاش. هذا بالنسبة للكائنات الآتية من جينات الأصل الأول، "هنري بورغان" (ويل سميث) الكائن البشري المُمتلك لمهارات خارقة في القتال والقنص من بعيد. وكان في وقت وظيفته يعتقد بأنه يقوم بمهام "شرعية" تخدم دولته لحين اكتشافه للدور الحقيقي الذي كان يقوم به. قتل شخصيات على أساس بأنهم "أعداء البلاد" وقنصهم من بعيد.
لكنّ القصة لم تكن كذلك. يتخذ قرار التقاعد وحينها يأتي اكتشافه بأنه يواجه شاباً مصنوعاً من جيناته ويلقاه في حالة مواجهة معه. لم يكن وقتها يعلم بأنه يقوم بمواجهة "ولده" الذي أتى كي يحل بدلاً منه ولا بد أن يقتله. لا يمكن للقاتل أن يذهب للتقاعد دون أن يدفع ثمناً للأرواح التي تم قنصها، بلا ذنب. أن يواجه ذلك الشاب المجهول المصنوع من لحمه ودمه ولن يقدر على قتله. ينجح التايواني آنغ لي وهو يعمل على نسج فيلم يمكن اعتباره من نمط "الخيال العلمي"، لكنّه في ذات الوقت يذهب في اختراع الشيء الإنساني من قلب شريطه السينمائي حين يذهب هنري القاتل، بعد كل شيء فعله ، قائلاً "صرت أخاف أن أنظر لوجهي في المرآة".
دلالات
المساهمون