آمال الفن السابع: طريقة جديدة في التفكير

07 مايو 2020
ديفيد لينش: ستعود الأفلام. وستُزهر الأشياء (Getty)
+ الخط -
الأسئلة كثيرة، لكن الإجابات غامضة ومبتورة وناقصة. مستقبل السينما بعد كورونا غير معروف، مع أنّ توقّعات وتمنّيات كثيرة متفائلة بأنْ يكون المستقبل أفضل وأهمّ وأجمل، فالانتصار سيكون حتماً للسينما، والموت للوباء طبعاً.
كثيرون يرون أنّ المتعلِّق بالفن السابع ـ إنتاجاً وإخراجاً وتوزيعاً وعروضاً، وقبل هذا كلّه كتابةً ومعالجةً وتفكيراً وتساؤلات ـ سيستعيد نشاطه وحيويته، مرتكزاً على اختبارات شتّى مصنوعة في مرحلة تفشّي الوباء، ومنبثقاً من تأمّلات وعيشٍ. مهرجانات تختبر دورات افتراضية حالياً، لكنّها تؤكّد أنّ هذا مؤقّت. مهرجانات أخرى تؤجّل دورات هذا العام، إذْ تُدرك أنّها غير محصورة بعرض أفلامٍ، بل بتفعيل تواصل إنساني مع الفنّ وصناعته. منصّات ومواقع تمنح المنعزلين في منازلهم فرصاً مختلفة لمشاهدات متنوّعة، لكنّ هذا، برأي البعض، غير دائم. الصالات ستنفض الغبار عن مقاعدها وفضاءاتها ومقاهيها ومحيطها التجاري، الممتد من مداخلها إلى شوارع محيطة بها، و"ستُضيء عتمتُها" أحوالاً وقصصاً وانفعالاتٍ.
ديفيد لينش مثلاً أحد المتفائلين: "ستغدو الحياة أفضل. سيستمتع الناس بكونهم أحياء. ستُصبح صورتهم عن أنفسهم أكبر وأوسع. ستتحسّن علاقاتهم برفاقهم ورفيقاتهم في الإنسانية". يُكمِل تأمّلاته: "ستغدو الأمور ألطف وأكثر روحانية (...). سيكون هناك عالم مختلف، أكثر ذكاء بكثير. سنصل إلى حلول. ستغدو الحياة جميلة جداً. ستعود الأفلام. ستُزهر الأشياء كلّها مرّة أخرى، بصورة أبهى بكثير على الأرجح" (المجلة الشهرية الكندية Vice، 9 إبريل/ نيسان 2020).

هذا ممكن. التفاؤل يمنح المرء قوّةً لمواجهة الموت. التفاؤل قابلٌ لأنْ يكون، بشكلٍ أو بآخر، "صمام أمان" في لحظة الخطر. لكن السينما ستحضر، والتفاصيل كلّها، المنبثقة منها والمتعلّقة بها، ستسعيد نشاطها. هذا قدرٌ، فالسينما صناعة وتجارة أيضاً، والصناعة والتجارة مصدرَا ربحٍ وأموال، والخسائر الآنيّة كثيرة. يُرجِّح بعضهم أنْ السينما لن تتغيّر، باستثناء تغيّر مواضيعها وآليات اشتغالها، وربما كيفية مُشاهدة نتاجاتها. المقصود بعدم تغيّر السينما أنّ كلّ شيء فيها سيستعيد نشاطه وحيويته: شركات واستديوهات وصالات ومهرجانات وعمليات بيع وشراء وأسواق، إلخ. أما المُشاهدة، فمعقودة على الصورة التي ستتّخذها العلاقات بين الناس: من سيُفضّل الاحتفاظ بالابتعاد الاجتماعي، مُتّخذاً الحذر ثقافةَ عيشٍ يومي؛ ومن سينفض عنه آثار العزلة المنزلية، ويدخل الصالة السينمائية مُحصَّناً بعشقٍ غير ناضبٍ للفن السابع؟ من سيستمر في المُشاهدة المنزلية، التي ستوفّرها آليات معروفة وأخرى ربما تنبثق من حالة الحذر الاجتماعي؛ ومن سيكتفي من المُشاهدة هذه بالقليل، فالأولوية بالنسبة إليه ستكون حتماً للصالة والمهرجان والتواصل مع الناس عبر مُشاهدة جماعية للأفلام؟

العالم العربي يتخبّط بمشاكل وأزمات سينمائية، يُضيف "كورونا" عليها مآزق وارتباكات. لبنان يعيش، منذ أعوام مديدة، أزمة اقتصادية ووضعاً اجتماعياً بائِسَين، يُفضيان إلى "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، قبل تفشّي "كورونا"، المؤدّي إلى تعبئة عامة وإغلاق تام لمرافق كثيرة، منها صالات السينما. أفلام لبنانية غير مُنجزة، ومشاريع معلّقة. أفلام أجنبية قابعة في "عُلبها"، وأخرى تنتظر الإفراج عن قرار "حظر التجوّل والتنقّل". الصالات اللبنانية معطوبة منذ أشهرٍ طويلة، فالارتباك الحاصل في المشهد الحياتي السابق على "كورونا" قاسٍ ومخيف. الوضع المرافق للتعبئة العامة اللبنانية يكشف ازدياداً كبيراً في تفشّي الفقر، فالأعمال اليومية معطّلة، وأناس كثيرون "على شفير الهاوية"، وبعضهم فيها، والسلطة منفضّة عن كلّ دعم فعلي وحقيقي، والمتحكّمون بأمور البلد منصرفون إلى مصالحهم الشخصية. الوباء غطاء لشركات ومصانع يُتيح لأصحابها صرف موظّفين وعمّال، بحجّة انعدام أرباحٍ وشحّ أموال، والسلطة الحاكمة لن تساعِد ولن تعوِّض، فهي مكترثة بذاتها فقط. مَن يفتقد مالاً لمأكلٍ ومطعم ومسكن، لن يُفكِّر البتّة بفيلمٍ وصالةٍ.


تشاؤم؟ ربما. لكنّ الصناعة ستستمرّ، والأفلام ستُنجز، وبعضها منبثقٌ من راهنٍ يضع المرء أمام نفسه معرّياً إياها، أو هكذا يُفترض به أنْ يفعل. الاغتسال الروحي ضروري، والأفلام الجديدة ربما تُساهم في ذلك، أو تُكمِل الاغتسال بطرح أسئلة أخرى تتعلّق بمواضيع قديمة: الحياة، العلاقات، الذات، العيش، الذاكرة، إلخ. أو ربما تُطرح أسئلة جديدة، وهذا منوطٌ بالجميع، لا بالسينمائيين فقط. بعض هؤلاء السينمائيين منشغلٌ الآن بكتابة أو بتأمّل. بعضٌ آخر "يُمرِّن" عينيه وقلبه وعقله وكاميرته على التقاط أشياء وهوامش ومسارات آنيّة، فيُصوّر ويُمنتج ويُجهِّز صنيعه لعرضٍ تتولّاه منصّات ومواقع. هذه اختبارات. الأفلام الوثائقية والروائية ستأتي لاحقاً. ورغم كلّ التمزّق الاجتماعي المتأتي من انهيار الاقتصاد والعملة الوطنية، ستفتح الصالات أبوابها، وستشتغل آلات العرض، وسيأتي مشاهدون، وستختار غالبيتهم المُسلّي والعادي، بينما المُثير لمزيدٍ من التساؤلات سيواجه، كعادته، صعوبة العثور على شاشة كبيرة، فـ"متروبوليس" مُغلقة منذ ما قبل تفشّي "كورونا"، وافتتاحها في مكانٍ آخر محتاجٌ إلى وقتٍ، للعثور على هذا المكان، ولتجهيزه وجعله صالحاً لعملٍ يتوافق مع ثقافتها الـ"سينيفيلية".
التغيير آتٍ، وسيطاول مسائل كثيرة. هذا مؤكّد. فهل يكون التغيير كلّه إيجابياً؟ هذا يتمنّاه كثيرون. فـ"الطبيعة الأم"، بحسب ديفيد لينش، تُوقِف البشرية السالكة درباً خاطئاً "لسببٍ ما"، قائلة لها: "هذا يكفي. علينا أنْ نوقف كلّ شيء". يُضيف لينش أنّ هذا سيتوقّف "مدّة كافية" إلى أنْ يعثر البشر على "طريقة جديدة في التفكير". فهل يتخلّى البشر عن تفكيرٍ وسلوك يقودانهم إلى الجحيم مجدّداً، أم أنّ اللحظة مناسبةٌ للتنبّه أكثر إلى هشاشة الأفعال كلّها، وإلى ضرورة إيجاد بدائل أنجع لحياةٍ أفضل؟
تُرى، ألن تصلح تساؤلات كهذه لأفلامٍ يُفترض بها ألّا تكتفي بقول ما سيحدث، كعادتها منذ أعوامٍ مديدة؟

لكنّ السينما غير معنية بنبوءات، وتوقّعاتها السابقة غير مجدية لحماية البشرية، وتمنيّاتها غير صالحة لخلاصٍ، فأبطالها الخارقون مسحوقون أمام "العبقرية الطبيّة والعلمية" لدونالد ترامب، "الصمت المريب" لسادة الصين، والتلاعبات القذرة لفلاديمير بوتين مثلاً؛ وأبطال العضلات المفتولة يُدخّنون السيغار في مسابحهم الخاصة (آرنولد شوارزينيغر)؛ وأبطال القصص المُصوّرة يُقاتلون "عدواً لا يُمكننا هزيمته" (X-Men: Days Of The Future Past، براين سينغر، 2014)... فكيف الخلاص؟
دلالات
المساهمون