آل مخلوف في سورية: الحكاية الكاملة لصعود المافيا وسقوطها

21 مايو 2020
ظهر رامي مخلوف عبر "فيسبوك" لشرح الخلاف (فرانس برس)
+ الخط -
تكاد تختصر حكاية عائلة مخلوف سيرة سورية خلال نصف قرن من الزمان، إذ إنّ الفساد ونهب المال العام والسطوة الأمنية نهج نظام كامل تقوده عائلات محددة حولت البلاد برمتها إلى "جمهورية خوف"، لا يأمن السوري فيها على نفسه وماله. وتدلّ المعطيات المتوافرة على أنّ عائلة مخلوف التي راكمت النفوذ والثروات طوال العقود الماضية مستفيدةً من ارتباطها عائلياً بالنظام وتحولها إلى واجهته الاقتصادية، فضلاً عن أدوارها الأمنية، باتت اليوم على حافة سقوط مدوٍ، بعد خلاف مع عائلة الأسد الحاكمة. ويتصدر رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام السوري بشار الأسد، واجهة الخلاف الذي بلغ مرحلة جديدة بتسريب أخبار الحجز الاحتياطي على أمواله وأموال زوجته وأبنائه قبل عودة وزارة المالية التابعة للنظام إلى نفي الأمر، ما يظهر حجم الارتباك داخل النظام الذي يتسبب به هذا الخلاف، والذي من غير الواضح كيف ستكون نهايته. وتتقاطع أسباب الخلاف بين سياسية وأمنية واقتصادية وعائلية، في ظلّ مؤشرات على أنّ النظام الذي يعاني من انهيار اقتصادي بعد أكثر من تسع سنوات من الحرب التي شنها على السوريين واستطاع خلالها تعزيز سيطرته على الأراضي التي خسرها، بدأ بمرحلة جديدة عنوانها الأساس إجبار جميع المحسوبين عليه والذين راكموا الثروات خلال فترة الحرب، على تمويل استحقاقاته المالية الداخلية والخارجية المتراكمة. يضاف إلى ذلك رغبته في "تهميش آل مخلوف وإضعافهم وإخراجهم كلياً من الواجهة"، إلى جانب مساعي رئيس النظام بشار الأسد في "إعادة تركيز مصادر القوة، ومن ضمنها الموارد المالية، داخل النظام بين يديه"، بحسب ما يلخصه تقدير موقف بعنوان "خلاف الأسد - مخلوف: أسبابه، وتداعياته، واحتمالات تطوره"، صادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".

وبدأ رامي مخلوف، وهو اليوم الشخصية الأهم في عائلة آل مخلوف، أخيراً بالتهديد المبطّن للنظام في حال استمرار الأخير بمحاولات نزع أنيابه في سورية من خلال دفعه إلى التخلي عن شركة الاتصالات الأولى التي يملكها في البلاد "سيريَتل"، في خطوة تشير معطيات إلى أن أسماء الأخرس زوجة بشار الأسد ليست بعيدة عنها، وذلك في سياق إجراء توازنات جديدة في النظام تحسباً لمرحلة مقبلة لم تتضح معالمها بعد. ولكن الكاتب والمعارض السوري بسام يوسف، يرى في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ مسألة "سيريتل" ليست هي القضية الأساسية التي تدور المعركة حولها، موضحاً أنّ "سيريتل هي قمة الجبل من المشكلة الحقيقية، وهناك مليارات الدولارات المتنازع حولها". ويعبر يوسف عن اعتقاده بأنّ الظهور المتكرر من قبل رامي مخلوف على موقع "فيسبوك" منذ أسابيع لشرح الخلاف، والتركيز على "سيريتل"، له أهداف عدة مثل "التغطية على المليارات الأخرى المنهوبة من الشعب السوري، وتبرئة نفسه من الانهيار الاقتصادي الذي يتسارع كل يوم وتحميل مسؤوليته للطاقم الجديد، إضافة إلى سحب ما يستطيع من الحاضنة الشعبية الموالية، للاستقواء بها في معركة مقبلة". ويشير يوسف إلى أنّ رأس النظام بشار الأسد "مستفيد من هذه المسرحية"، مضيفاً: "هو يظهر الآن بمظهر القادر على ضبط الدولة، والقادر على محاربة الفساد، وبالتالي هو مؤهل لإعادة إنتاج السلطة المقبلة".

صعود مرتبط بحافظ الأسد

تنحدر عائلة مخلوف من بلدة بستان الباشا في ريف مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية على الساحل السوري، وهي من العائلات العلوية المعروفة، وهو ما دفعها إلى رفض الملازم أول حافظ علي سليمان الوحش (الأسد لاحقاً) عندما تقدم إلى خطبة أنيسة مخلوف في عام 1958، كونه من عائلة متواضعة ومغمورة من قرية القرداحة القريبة. ولكن الأسد الساعي حينذاك إلى تحسين وضعه الاجتماعي، استطاع بعد محاولات، الزواج من أنيسة التي تنتمي إلى عائلة لها توجه سياسي مختلف عن توجه الأسد الذي كان عضواً في "حزب البعث العربي الاشتراكي"، في حين كانت عائلة مخلوف ميّالة إلى الحزب "القومي السوري الاجتماعي".


وبدأ صعود عائلة مخلوف الفعلي مع تسلّم حافظ الأسد للسلطة عقب انقلاب على رفاق الأمس في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1970، إذ بدأ بدفع عائلات من الطائفة العلوية إلى واجهات السلطة الأمنية والعسكرية والاقتصادية وحتى الثقافية، لتأمين حكمه في بلد شهد نحو 10 انقلابات عسكرية خلال عشرين سنة. وبعد مرور نحو عام على استلامه السلطة، قرّب حافظ الأسد شقيق زوجته محمد مخلوف (من مواليد 1932) إلى الواجهة الاقتصادية، من خلال نقله من كونه مجرد موظف في شركة الطيران السورية في قسم المحاسبة التجارية، إلى المدير العام لمؤسسة التبغ والتنباك "الريجي" التي كانت حينذاك من كبريات المؤسسات الاقتصادية في سورية. وتؤكد مصادر مطلعة أنّ مخلوف بدأ برحلة الفساد مع تسلمه لهذه المؤسسة، حيث حصر وكالات شركات سجائر أجنبية باسمه، كما فرض على الشركات الأجنبية عمولة 10 في المائة مقابل كل كمية مستوردة منها من قبل مؤسسة التبغ. وفي ثمانينيات القرن الماضي، منع حافظ الأسد مؤسسة التبغ من استيراد السجائر الأجنبية المصنعة وحصر الاستيراد بمؤسسة الأسواق الحرة والتي كان يسيطر عليها محمد مخلوف. وكانت عمليات الاستيراد محدودة للغاية، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام متنفذين مرتبطين بمحمد مخلوف وغيره من الطائفة العلوية، للبدء بعمليات تهريب للدخان الأجنبي واسعة النطاق، من قبرص عبر لبنان إلى سورية، حيث ظهر "الشبيحة" في ذلك الوقت، والذين كانوا يتولون نقل كميات من الدخان من الحدود السورية اللبنانية إلى مختلف المناطق السورية، لحساب عائلات عدة منها عائلة مخلوف.

وأثار ما كان يقوم به محمد مخلوف في سورية بلبلة كبرى دفعت حافظ الأسد إلى نقله من "الريجي" إلى إدارة المصرف العقاري، حيث بدأ فصلاً جديداً من الفساد. ووفق المصادر، كان محمد مخلوف يتقاضى 15 في المائة من كل قرض يمنحه البنك، كما يتقاضى 10 في المائة عن أي تأخير في السداد. كذلك، منح قروضاً وهمية، فضلاً عن إعطائه قروضاً لرجال أعمال لإقامة مشروعات تبيّن لاحقاً أنها كانت وهمية أو لا تستحق قروضاً عالية. كما احتكر محمد مخلوف كل شيء يتعلق بصناعة النفط في سورية، من خلال شركة أسسها لهذا الغرض. وكانت له أيضاً يد في أغلب المجالات الاقتصادية التي تدر أرباحاً كبرى كقطاع الكهرباء، وقطاع النسيج، وقطاع المصارف. وبيّن تحقيق نُشر في "العربي الجديد" بتاريخ 12 أغسطس/آب عام 2015 جوانب من "إمبراطورية آل مخلوف المالية"، إذ أشار إلى أنّ لعائلة مخلوف خمسين شركة معلنة "لم تكن سوى الرأس الظاهر للعيان من جبل الجليد، بينما تختبئ العمليات المعقدة والشركات الأم المخفية في الملاذات الضريبية الآمنة". وفي نهاية التسعينيات من القرن الماضي، بدأ محمد مخلوف بدفع ابنه رامي (من مواليد 1969) إلى واجهة العمل الاقتصادي في سورية.

رامي مخلوف وبشار الأسد

مع تسلم بشار الأسد للسلطة في عام 2000، أعلن رامي مخلوف عن وجوده من خلال شركة الاتصالات "سيريتل" التي كانت المخدم الثاني للهواتف النقالة في سورية، إضافة إلى شركة mtn والتي يمتلك رامي فيها حصة كبيرة. وبدأ رامي مخلوف بالصعود الدراماتيكي من خلال حجم الأرباح الكبيرة التي كان يجنيها من الاتصالات والتي قدرتها مصادر مطلعة بنحو ربع مليار دولار في عام 2011. كذلك، بدأ صعوداً دراماتيكياً في كل قطاعات الاقتصاد السوري، حتى سيطر على 60 في المائة من الاقتصاد السوري وفق منظمة "غلوبال ويتنس" لمكافحة الفساد، التي أكدت في تقرير عام 2019، أنّ رامي مخلوف يدير أكبر شركة للهواتف المحمولة في سورية، ويملك العديد من شركات البناء والنفط، فضلاً عن امتلاكه عقارات في العاصمة الروسية موسكو تقدَّر بـ40 مليون دولار، بحسب المنظمة.

ووفق مصادر مطلعة، يملك رامي مخلوف وعائلته شركة "شام القابضة"، وبنكي "سورية الدولي" و"بيبلوس"، وشركة "شام كابيتال" للوساطة المالية، وأسطولاً لصيد السمك في جزيرة أرواد السورية يدرّ ملايين الدولارات سنوياً. وفرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على رامي مخلوف في عام 2008، وقالت وزارة الخزانة الأميركية حينها إنّ "مخلوف استخدم الترهيب وروابطه الوثيقة بنظام الأسد للحصول على مزايا في مجال الأعمال". وبعد انطلاق الثورة السورية في عام 2011، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على عدد كبير من أركان النظام، من بينهم رامي مخلوف الذي لقبته صحيفة "نيويورك تايمز" يومها بأنه "السيد 5 في المائة"، في إشارة إلى النسبة المئوية من العمولات التي كان يفرضها على كل مشروع في سورية.

وكان تغوّل عائلة مخلوف سبباً رئيسياً من جملة أسباب أفضت إلى انطلاق الثورة السورية، بعدما تحولت سورية كلها إلى مجرد مزرعة لعدة عائلات مرتبطة بالنظام، أبرزها عائلة مخلوف التي أصبحت أغنى عائلة في البلاد.

وقد حاول رامي مخلوف وقتها الابتعاد عن المشهد، من خلال ادعاء التفرغ للعمل الخيري، خصوصاً من خلال جميعة "البستان" التي تحولت إلى ستار للتغطية على المليشيات التي شكلها، واعتمد عليها النظام في قمع الثورة السورية، من دون أن يتراجع دوره الاقتصادي والأمني حتى.

بداية التهميش

غير أنّ كل ذلك بدأ في التحوّل خلال السنوات الأخيرة على نحو تدريجي. لكن العام 2019 شكّل مرحلة فارقة، وذلك بعدما مهّد النظام لهذه المرحلة تباعاً عبر سلسلة إجراءات بالتعاون مع روسيا. وشملت التدابير تقليص نفوذ مخلوف العسكري خصوصاً عبر تفكيك تحالفه مع المخابرات الجوية والفرقة الرابعة، وإضعاف المليشيات التي كانت تحت سلطته.

ومع تفاقم الخلاف اليوم بين رامي مخلوف وعائلة الأسد، يبدو أنّ مرحلة إنهاء نفوذ الأول، وباقي أفراد العائلة، ومن هم محسوبون عليها، قد دنت لحظتها. وتجد عائلة مخلوف نفسها في موقف صعب، على الرغم من عدد من أوراق القوة التي لا تزال تملكها، بما في ذلك الدعم الذي يتمتع به تحديداً رامي مخلوف داخل الطائفة العلوية، فضلاً عن امتلاكه الكثير من الأسرار الخاصة بالنظام. وخسرت عائلة مخلوف بوفاة أنيسة مخلوف، والدة بشار الأسد، في عام 2016، السند الأقوى لها في القصر الجمهوري، ما أفسح المجال لقوى أخرى داخل النظام، تحديداً ماهر الأسد وأسماء زوجة رئيس النظام، في مزاحمة عائلة مخلوف على النفوذ. وتتهم أسماء الأسد بأنها تحاول استبدال مخلوف بابن خالتها رجل الأعمال مهند الدباغ، ليكون هو الإمبراطور المالي الجديد في سورية، وهو ما يصوّره أتباع مخلوف على أنه بمثابة سعي للانتقاص من نفوذ الطائفة العلوية في سلطة آل الأسد (على اعتبار أنّ أسماء الأخرس تتحدّر من الطائفة السنية).

وعلى الرغم من أنها كانت تفضّل الابتعاد عن دائرة الضوء الإعلامي، إلا أنّ مصادر مطلعة تؤكد أنّ أنيسة مخلوف كانت وراء إطلاق يد شقيقها محمد مخلوف (ومن ثمّ أبنائه) ليصبح واحداً من أغنياء سورية، في إطار الأدوار التي أدتها خلال ثلاثين عاماً كان زوجها فيها رئيساً مطلق الصلاحيات في البلاد، تماماً مثلما لعبت دوراً في ترتيب عملية نقل السلطة إلى ابنها بشار في منتصف عام 2000 عقب وفاة حافظ الأسد. كذلك تتهم بأنها هي من دفعت إلى التعامل بقسوة مع الحراك الثوري، كما فعل حافظ الأسد في عام 1982. وفي 23 مارس/آذار 2012، أضاف الاتحاد الأوروبي أنيسة مخلوف إلى لائحة الشخصيات السورية التي فرض عليها عقوبات، ومن بينهم أيضاً زوجة بشار الأسد، وشقيقته بشرى التي خرجت من سورية عقب اتهامها لشقيقها بشار بتصفية زوجها آصف شوكت وانتقلت للعيش في الإمارات.

وتؤكد المصادر أنّ محمد مخلوف يقيم في العاصمة الروسية موسكو منذ منتصف عام 2012، حيث يدير مصالح العائلة في روسيا، ويقيم معه ابنه الثاني حافظ الذي كان رئيساً لفرع دمشق في إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، وكان من أبرز الضباط الذين حاولوا وأد الثورة من خلال اعتقال وتصفية عدد كبير من المتظاهرين تحت التعذيب. وقد نقل رجل أعمال سوري في دمشق عن حافظ مخلوف قوله في بداية الثورة: "لدينا استعداد لفعل كل شيء للبقاء في السلطة، وفي حال اضطررنا للتنازل عنها، سندمر سورية ونقيم دولة علوية في الساحل". وأعفى بشار الأسد ابن خاله حافظ من منصبه في عام 2014 لأسباب غير معلومة، ولكن هناك من يرجح أنّ حافظ فتح خط اتصال مع الإيرانيين للعب دور سياسي، وهو ما دفع الأسد إلى تحييده.

ولا يقتصر نفوذ عائلة مخلوف على محمد وأبنائه، إذ كان عدنان مخلوف لفترة طويلة قائداً للحرس الجمهوري إبان سنوات حكم الأسد الآب، وهو من أبناء عمومة محمد مخلوف. ويسيطر خلدون ابن عدنان مخلوف على قسم كبير من القطاع السياحي والفندقي في سورية، حيث يمتلك ويدير عدداً من الشركات، كما أنه شريك مؤسس في شركات أخرى. كذلك يمتلك فنادق عدة في مدينتي دمشق وحلب. من جهته، بقي مخلوف مخلوف، وهو ابن عم أنيسة مخلوف، مديراً عاماً لمؤسسة الدواجن في وزارة الزراعة السورية أكثر من 20 عاماً، على الرغم من شبهات الفساد والإثراء غير المشروع التي كانت تلاحقه، إذ لم يكن يجرؤ الوزراء المتعاقبون على الوزارة على محاسبته أو إقالته.



المساهمون