آلجي

18 فبراير 2019
(من الجزائر العاصمة)
+ الخط -

بنايات آلجي* قديمة
كمحاربين قُدامى نجوا من الحرب
ليعيشوا طويلاً برصاصة ترقد إلى جانب القلب
مع ذلك، فهي تحتفظ بكامل شبابها
فأسطحها لا تخلو من الملابس الملوَّنة
ومن نساء يصعدن إليها في منتصف النهار
بشَعر مطلوق وتنانير قصيرة
كصورة ممثّلة مجهولة، على جدار غرفة مراهق في "عصر الثمانينيات"
كما يطلّ من شرفاتها في أوّل الظهيرة، رجالٌ
بأجسام غير متناسقة
وبكرش يسمّيه الإسبان
"La curva de la felicidad"
(انحناءة السعادة)
يدخّنون عادةً أو يديرون ظهورهم للبحر
البحر الذي لم يعد زرقة في العينين
بل كدمة هائلة خلّفها الغزاة


■ ■ ■


في السطح المقابل، أريكة خضراء
(لملك فقد عرشه منذ زمن بعيد)
تدير ظهرها للبحر وللمدينة التي تتآكل
لا يجلس عليها أحد
تحيط بها أطباق دِش، ملتصقة بالحواف
كبيادق تتردّد طويلاً قبل الانتحار
وأمامها، رقعة واسعة من البلاط الأحمر الشاحب
(ومدخنة عمياء)
وعلى يمينها، "روفٌ" زجاجيّ فاخر
يذكِّرها بأمجاد قديمة
لا أحد يذكر كيف صعدتْ إلى هناك
فسلالم البناية، كالعادة، ضيّقة
والمصعد الخشبي لا يتّسع سوى لشخصين نحيلين
لكنّها، بلا شكّ، كعروش تلك المدينة
(تقذفها الملائكة أو الطائرات أو حتّى مؤخِّرات الحمام)
ثمّ تعجز دائماً عن النزول.


■ ■ ■


تصعد النساء إلى السطوح
مع روح الذبيحة
وبحماسة وفرح أمّ، نجا ابنها منذ آلاف السنين
ينظِّفن أحشاء الخروف - دون تذمّر
ثمّ يغسلن أرضية السطح بالماء والصابون
- من الدم وبقايا وجبة لم تُهضم جيّداً
وحين تصعد رائحة الشِّياط نحو السماء - كالبَخور
يسمحن للأطفال بالخروج واللعب بثيابهم الجديدة
وللفتيات بأن يفردن شعرهن المكويّ بعناية - لساعات طويلة
وبتذوّق طعم الكبِد الحادّ - الذي كاد أن يحترق
كمن يتذوّق الملح العالق بأصابعه
ليتأكّد بأنّه نجا من الغرق


■ ■ ■


قبل أن تطرده أطباق الدِّش وخزّانات الماء وموجات الأقمار الصناعية
وتطرده أجساد ستظلّ متّسخة للأبد
كان للصابون بيت في سطوح تلك المدينة
وكان يُدعى: "بيت الصابون"
كانت النساء يصعدن إليه كلّ صباح
كما يصعدن إلى بيت جارة، تنظّم "صبحيات" تقدّم فيها الشاي والكعك اللذيذ
بالفرح ذاته وبنميمة طازجة مخبّأة بين الأكمام
يدعكن الياقات البيضاء على قطعة خشبية
بالمهارة ذاتها، التي يقّطعن بها "فروة" الجارة الصبية بألسنتهن الحادّة
ثمّ ينشرن غسيلهن النظيف
وينزلن خفيفات، من عبء الروائح القديمة والذكريات والأحزان والضغائن الصغيرة وليلة الحب الفاشلة
بعدما رشّ الصابون عطره عليهن
كما تفعل القرويات، احتفاءً بالضيف المميّز
فقد كان الصابون حينها، أبيض وممتلئاً وصلباً
كساعديّ امرأة فلّاحة


■ ■ ■


لا يعرف أيّة لغة تتحدّث بنايات تلك المدينة
مع أنّه يكلّم الجدران منذ سنوات طويلة
دون أن تردّ عليه
ودون أن يخبطها برأسه
كما يوصيه سكّانها
- حين لا يعجبه شيء -
تقول النكتة: ما دامت لا تردّ عليك، فأنتَ بصحة نفسية جيّدة
مع ذلك، فهو يسمعها حين تنقل صوت الماء - والبول- في المواسير
وصوت الخطوات الحافية بعد فعل الحب أو حين تستيقظ العجوز مع أذان الفجر
وركض الأطفال في السابعة صباحا
وصوت ضحكة الرجل الوحيد بعد منتصف الليل
يفكّر أحيانا، أنّ بعض السكّان "البرجوازيين" يتحدّثون بلغة أجنبية مع أبنائهم
فقط لتستأنس الجدران بلغة مصمّمها
رغم أن الجدران لا تعرف سوى لغة البنّائين
الذين يشتمون - فيما بينهم - مسؤول ورشة البناء
أو يحكون نكتاً بذيئة عن زوجته، التي تحمل له الطعام كلّ يوم
دون أن تلتفت إليهم، بشربة ماء.


■ ■ ■


المرأة التي أخبرته بأنّ المصعد الذي لا يعمل، لا يصلح لشيء
لا تعرف بأنّ المصعد ذاته قد ألهمه يوماً ما قصيدة:
"المصعد العالق
بين طابقين
لم يعد يذكر هو الآخر
أين كان متَّجها
حين قرّر المخرج استبدال
هدوء حركته
بضجيج أقدام الممثّلين الساكنة"
كما أنّه يتخيّله دائماً جثّة مشنوقة
لم يجرؤ أحد على دفنها
تشهد نزول الموتى
وصعود المعزّين
وتتسرّب منها أشباح أليفة
- أحلام وخيبات لم تتحقّق -
ولأن جسدها من خشب أصيل
فقد اكتسبت مع الوقت رائحة فاتنة.
المرأة التي توقفّت أمام باب شقّته لتستريح
لا تعرف أنّه لولا المصعد الذي لا يصلح لشيء
لما استأنس كلّ تلك السنوات
بلهاث الصاعدين.


* شاعرة من الجزائر

المساهمون