عند مدخل "قصر الباشا"، يقف فارس الشوا (12عاماً) متأملاً حوله. ببراءة طفولية يشير إلى إحدى بوابات القصر ويقول: "جدي أخبرني بأن السلطان المملوكي (الظاهر) بيبرس هو الذي أمر ببناء هذا القصر، بعدما انتصروا على المغول في معركة عين جالوت". وعند سؤاله عن العام الذي شُيّد فيه هذا القصر، يجيب: "بني في عام 1260، بحسب جدّي. لكنه قال إن كثيراً من آثاره وتحفه ضاعت أو سرقت في فترة حكم الإنجليز، لأنهم حولوا القصر إلى مركز للشرطة".
يشرح فارس أنّ القصر "يتكوّن من مبنيَين، واحد شماليّ والآخر جنوبيّ. الشماليّ للإدارة والحكم وأركان الدولة، أما الجنوبيّ فكان مسكن الأمير وزوجته وأولاده. وفي العهد العثماني، أطلق على أمير غزة لقب الباشا". يضيف الصبيّ: "أوصاني جدي أن أهتم وأحفظ جيداً تراثنا وحضارتنا، لأن هذه شواهد للتاريخ على حقنا في أرضنا".
يتميّز قطاع غزة بعشرات المواقع الأثرية، إلا أن تلك المعالم التاريخية تتعرّض للإهمال الحكومي والمجتمعي نظراً لغياب الوعي حول أهميتها. وهو ما أدّى إلى اندثار بعضها وضياعه وتضرّر أجزاء بسبب الإهمال والعوامل المناخية. ولعل الدور الأبرز في طمس هذه المعالم، كان للاحتلال الإسرائيلي الذي دمّر وخرّب كثيراً منها، وسرق الجزء الأكبر من هذه الكنوز التاريخية.
تفيد الإحصاءات بأن في قطاع غزة، 150 بيتاً أثرياً و20 مسجداً وثلاث كنائس قديمة، وسوقا قديمة واحدة، وسبيل مياه واحدة، وزاويتين، بالإضافة إلى 15 موقعاً أثرياً مختلفاً. وقد عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى عمليات سرقة ونهب منظمة لهذه المواقع، وزوّر كثيراً من القطع الذهبية والأحجار والآثار، ليجعلها تبدو وكأنها تعود إلى اليهود. كذلك، كان لإهمال الفلسطينيين دور كبير في ضياع هذا الإرث التاريخي، من قبيل بنائهم المنازل عليها أو تخصيصها كمواقف سيارات من قبل البلديات.
اقرأ أيضاً: محمد مهاني يعزف بقلبه
ثمّة نماذج ما زالت شاهدة على التاريخ الفلسطيني، إذ كانت مقاومة لكل محاولات طمس التاريخ وتزييفه. والذين يعنون بها، قاوموا حتى تمكّنوا من الحفاظ على شواهد وجودهم وتاريخهم. ويتحدّث المؤرخ والباحث سليم المبيض عن تجربته، قائلاً: "بعد اندلاع الانتفاضة أواخر 1987، كنت ألاحظ أن الإسرائيليين يعتدون كثيراً على المساجد القديمة. ففكرت بإعداد دراسة لكل أثر إسلامي في قطاع غزة، من مساجد وجوامع وأسبلة وبيمارستانات وخانات وأسواق وحتى المقابر". يضيف لـ "العربي الجديد": "كنت ألتقط صوراً للأمكنة بداية ومن ثم أعدّ خريطة له. هكذا، لو دمّر أي مسجد، يستطيع المهندسون الاستفادة منها". وقد عمد المبيض إلى تصوير كل حجر حمل نقشاً أو صوراً بعد محاولات كبيرة لقراءته وتفسير ما كتب عليه. وبعد ذلك فكّ تلك الكتابات.
وعن غياب وعي المواطنين حول أهمية هذه المباني وحجارتها، يخبر المبيض أن "في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، دمّر جامع المحكمة وهو جامع أثري يرجع للقرن الثامن الهجري في حي الشجاعية. للأسف رميت حجارته الأساسية الأثرية التي تُعدّ شهادة ميلاد له". يضيف: "لا بدّ من أن يدرك الجميع أن كلّ حجر يؤرّخ لتراثنا وحضارتنا، وهو ورقة طابو لملكيتنا لهذه الأرض".
ويرى المبيض "خللاً كبيراً في عدم اهتمامنا بتراثنا وكنوزنا التاريخية الجميلة، يعود إلى مجموعة من الأسباب". ويلخصها بأنّ "لم يكن لدينا توجه من الطلبة للتخصص في التاريخ والآثار، أولاً. ثانياً، لا هواة متحمسون ومحبون للتراث المعماري الإسلامي القديم. ثالثاً، الهلع الاقتصادي دفع كثيرين إلى تدمير المباني المعمارية الجميلة، ليبنوا مكانها منازل كبيرة، مهتمين بالمادة وتاركين للتراث. رابعاً، المناهج كانت مستوردة ولم تتضمّن ما يحفّز على احترام التراث، كذلك لم تهتم الدولة بتبنّي الآثار وشرائها من المواطنين الذين يعثرون عليها، ما جعل قطعاً أثرية ثمينة كثيرة تضيع أو تسرق".
عن دور الحكومة في حفظ التراث وإجراءات وزارة السياحة والآثار للحفاظ على المباني التاريخية والآثار، يتحدّث مدير عام الآثار والتراث الثقافي في الوزارة في غزة، الدكتور جمال أبو ريدة. ويوضح لـ "العربي الجديد" أن للحكومة كشوفات بأسماء أماكن وقطع أثرية كثيرة وبملكياتها وبكل المعلومات اللازمة الأخرى. ويشير إلى بعض المواقع الأثرية في القطاع غزة، مثل التل الأثري في رفح، وقلعة برقوق في خانيونس، ومقام الخضر في دير البلح، وتل السكن في النصيرات. كذلك، يذكر الموقع الأثري للقديس هيلاريون في النصيرات، الذي يقصده باحثون كثر ووفود من بيت لحم وأماكن أخرى، والذي يتوجّه إليه سنوياً وفد فرنسي بهدف العمل على ترميمه.
أما أشهر المناطق الأثرية في مدينة غزة ومدن شمال القطاع، فيلخّصها أبو ريدة بـ "المسجد العمري الكبير أحد أبرز معالم التراث الإسلامي في المدينة، بالإضافة إلى قصر الباشا، وحمام السمرة، ومنطقة البلاخية، وكنيسة بيرفيريوس. وفي شمال القطاع نجد الكنيسة البيزنطية، ومسجد النصر في بيت حانون الذي يؤرخ لمرحلة تاريخية مهمة".
لكن هذه المناطق بأكثرها، تعرّض للتدمير أو التخريب في العدوان الأخير على قطاع غزة. وعن الأضرار يقول أبو ريدة: "دمّر جامع المحكمة ومقام المنطار في الشجاعية تدميراً كاملاً، بالإضافة إلى تصدع مواقع أثرية كثيرة لقربها من البيوت التي قصفت، مثل مقام الخضر في دير البلح وقصر الباشا الذي تعرض للتصدع. وقد أنهت الوزارة أعمال ترميم بعشرين ألف يورو تبرّعت بها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. كذلك فإن الكنيسة البيزنطية في جباليا تعرّضت لقصف جوي مباشر، أدى إلى تدمير السور الشرقي للكنيسة وتصدعات في كنيسة بيرفيوس".
وتعمد الحكومة بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" إلى توثيق المناطق الأثرية التي تعرّضت للقصف والتدمير، إلا أن هذه الجهود لا تكفي. ويطالب أبو ريدة السلطة الفلسطينية بتحمل مسؤولياتها لحصر جرائم الاحتلال ومقاضاته لجرائمه بحقّ تاريخنا وحضارتنا. ويلفت إلى أنهم بالتعاون مع وزارة الداخلية، يمنعون أي محاولة لتهريب آثار إلى خارج قطاع غزة.
اقرأ أيضاً: أيتام غزّة محتاجون