تطرح رائدة طه في عملها المونودرامي الحكواتي الجديد، موضوعاً نادراً ما تمّ طرحه من قبل المسرحيين الفلسطينيين: حكاية تدور بين عائلة من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 وعائلة من فلسطينيي الشتات الذين طُردوا من أرضهم.
لا تقدّم رائدة هذا الموضوع، في عرضها الذي يحمل عنوان "36 شارع عبّاس حيفا" (مسرح المدينة/ بيروت) إلا من خلال سرديات أصحاب الحكاية أنفسهم، مستعينةً بالتفاصيل الصغيرة لأهل البيت بعيداً عن الأدلجة والمواقف المعلبّة سلفاً. هذا البيت، ترسم رائدة طه خطوطه وشبابيكه وغرفه وأثاثه بأناملها زارعةً خشبة مسرح المدينة بخطواتها كما لو أنها تشذّب ذاكرتنا البصرية بما لن يتسنى لنا رؤيته.
هنا تتماثل الرؤية الإخراجية لجنيد سري الدين بتقشف أدواتها المحصورة بالإضاءة والصوتيات (غيوم تيسون وشريف صحناوي) لصالح النص الذي كتبته رائدة وتولت تمثيله، والذي يدعو المشاهد للتفاعل مع مرويات فلسطين من خلال الذاكرة الشفوية التي غالباً ما تنقلها لنا النساء.
علي الرافع، هو محام يحور ويدور ليجد منزلاً مطلاً على البحر في حيفا إرضاءً لزوجته المستقبلية سارة. لا تطلب سارة مالاً ولا جاهاً، كل ما تريده هو منزل يطل على البحر. فكان الطابق الثالث من عمارة "36 شارع عباس" ملاذاً للعائلة وخزاناً لذاكراتٍ متعددة. البيت الذي أعطته سلطات الاحتلال الإسرائيلي لأحد المستوطنين تم بيعه إلى علي الرافعي. سرعان ما تكتشف سارة وزوجها علي أن مالك العمارة هو أحمد أبو غيدة الذي هُجّر من فلسطين، وتوزع أولاده وأحفاده في كل أنحاء العالم. منذ تلك اللحظة، ترفض سارة تغيير معالم البيت وفاءً لأصحابه الأصليين. حمّلت سارة وفاءها هذا لابنتها نضال التي قامت بالمستحيل كي يعود فؤاد، أحد أبناء أحمد أبو غيدة، إلى حيفا.
كل هذا يتراءى على مسمع المشاهد من خلال حكايا وإيماءات الابنة نضال، حركية لا تخلوان من نفس ساخر وروح فكاهة تمتنهما رائدة طه ببناءٍ أخاذ لشخصية عفوية وقوية ذات نبرة صوتٍ عالية لا يخيفها أي احتلال، يصحبها دائماً طيف سارة الوالدة الكتومة. لكل شخصية نسجتها رائدة، رموز حركية تتكرر عند اللزوم دون مغالاة أو مبالغة مع الحفاظ على هامش ملفت من السخرية بصفتها فعل مقاوم بجدارة.
تعبق بين حينٍ وآخر، سرديات العائلتين حول المكان بأحاسيس متبادلة بالذنب. ذنبُ من أخذ، عن غير قصد، بيتاً بذاكرة أصحابه السابقة، وذنب من ترك منزله مجبراً وفقد ذاكرة محتملة ولاحقة.
يغيب المكان في عرض "36 شارع عباس، حيفا" لتحل مكانه فضاءات متخيلّة وكلمات مروية بعاطفة نضال وعائلتها بطلة الحكاية. العرض برمته ينقل لنا حكاية منزل تعصى عن رؤيته العين المجردة. لم يلجأ المخرج جنيد سري الدين إلى تقديم أي دلالات بصرية أو أكسسوارات تحيلنا إلى المكان .إنه ارتقاء بالمكان إلى مقامٍ مقدّس غير مدركٍ سوى بالبصيرة وبمخيلة رائدة التي استعارت مخيلة نضال التي جمعت بدورها مخيلات عدة. ذاكرات متعددة حملت وهجاً للمكان اختزله جسد رائدة المتنقل على الخشبة. هكذا يحملون أوطانهم، أولئك الذين حرموا منها، في طيات وتفاصيل منازل صغيرة تمّ تناقلها عبر الذاكرة الجماعية: في ملاءات النايلون الممتدة على طاولة الطعام التي يفوق حجمها حجم الغرفة، في الكنبات الملتصقة ببعضها البعض لاستقبال الضيوف الكثر المحتملين، في كؤوس الزيتون والزعتر الحاضرة دوماً صبحاً ومساءً على طاولة المطبخ، في تابلوهات "القناعة كنز لا يفنى"، في الباحة حيث كان يلعب فؤاد أبو غيدة كرة القدم. هكذا يعيدون بناء وتمتين علاقتهم مع الأرض المسلوبة عبر سرديات تتكرر وتتكرر في مائة وجه ووجه حتى تأتي لحظة الخلاص الأولى والأخيرة: منظر الشرفة المطل على بحر حيفا.
* يستمر العرض على خشبة مسرح المدينة حتى 15 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي
اقــرأ أيضاً
هنا تتماثل الرؤية الإخراجية لجنيد سري الدين بتقشف أدواتها المحصورة بالإضاءة والصوتيات (غيوم تيسون وشريف صحناوي) لصالح النص الذي كتبته رائدة وتولت تمثيله، والذي يدعو المشاهد للتفاعل مع مرويات فلسطين من خلال الذاكرة الشفوية التي غالباً ما تنقلها لنا النساء.
علي الرافع، هو محام يحور ويدور ليجد منزلاً مطلاً على البحر في حيفا إرضاءً لزوجته المستقبلية سارة. لا تطلب سارة مالاً ولا جاهاً، كل ما تريده هو منزل يطل على البحر. فكان الطابق الثالث من عمارة "36 شارع عباس" ملاذاً للعائلة وخزاناً لذاكراتٍ متعددة. البيت الذي أعطته سلطات الاحتلال الإسرائيلي لأحد المستوطنين تم بيعه إلى علي الرافعي. سرعان ما تكتشف سارة وزوجها علي أن مالك العمارة هو أحمد أبو غيدة الذي هُجّر من فلسطين، وتوزع أولاده وأحفاده في كل أنحاء العالم. منذ تلك اللحظة، ترفض سارة تغيير معالم البيت وفاءً لأصحابه الأصليين. حمّلت سارة وفاءها هذا لابنتها نضال التي قامت بالمستحيل كي يعود فؤاد، أحد أبناء أحمد أبو غيدة، إلى حيفا.
كل هذا يتراءى على مسمع المشاهد من خلال حكايا وإيماءات الابنة نضال، حركية لا تخلوان من نفس ساخر وروح فكاهة تمتنهما رائدة طه ببناءٍ أخاذ لشخصية عفوية وقوية ذات نبرة صوتٍ عالية لا يخيفها أي احتلال، يصحبها دائماً طيف سارة الوالدة الكتومة. لكل شخصية نسجتها رائدة، رموز حركية تتكرر عند اللزوم دون مغالاة أو مبالغة مع الحفاظ على هامش ملفت من السخرية بصفتها فعل مقاوم بجدارة.
تعبق بين حينٍ وآخر، سرديات العائلتين حول المكان بأحاسيس متبادلة بالذنب. ذنبُ من أخذ، عن غير قصد، بيتاً بذاكرة أصحابه السابقة، وذنب من ترك منزله مجبراً وفقد ذاكرة محتملة ولاحقة.
يغيب المكان في عرض "36 شارع عباس، حيفا" لتحل مكانه فضاءات متخيلّة وكلمات مروية بعاطفة نضال وعائلتها بطلة الحكاية. العرض برمته ينقل لنا حكاية منزل تعصى عن رؤيته العين المجردة. لم يلجأ المخرج جنيد سري الدين إلى تقديم أي دلالات بصرية أو أكسسوارات تحيلنا إلى المكان .إنه ارتقاء بالمكان إلى مقامٍ مقدّس غير مدركٍ سوى بالبصيرة وبمخيلة رائدة التي استعارت مخيلة نضال التي جمعت بدورها مخيلات عدة. ذاكرات متعددة حملت وهجاً للمكان اختزله جسد رائدة المتنقل على الخشبة. هكذا يحملون أوطانهم، أولئك الذين حرموا منها، في طيات وتفاصيل منازل صغيرة تمّ تناقلها عبر الذاكرة الجماعية: في ملاءات النايلون الممتدة على طاولة الطعام التي يفوق حجمها حجم الغرفة، في الكنبات الملتصقة ببعضها البعض لاستقبال الضيوف الكثر المحتملين، في كؤوس الزيتون والزعتر الحاضرة دوماً صبحاً ومساءً على طاولة المطبخ، في تابلوهات "القناعة كنز لا يفنى"، في الباحة حيث كان يلعب فؤاد أبو غيدة كرة القدم. هكذا يعيدون بناء وتمتين علاقتهم مع الأرض المسلوبة عبر سرديات تتكرر وتتكرر في مائة وجه ووجه حتى تأتي لحظة الخلاص الأولى والأخيرة: منظر الشرفة المطل على بحر حيفا.
* يستمر العرض على خشبة مسرح المدينة حتى 15 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي