"يا ليل يا عين": كانت فيروز من بين المدعوّين

12 يونيو 2018
السيدة فيروز في 2004، تصوير: حسن مروة
+ الخط -
 

كتب أحدهم ذات مرة تعليقاً على مقطع صوتي للسيدة فيروز على موقع الصوتيات "ساوند كلاود"، قال فيه "يا إلهي، فيروز تتكلم!"، وكان يقصد أنها لا تغنّي، إذ إن المقطع الصوتي يحمل صوت فيروز وهي تناقش ابنها الفنان زياد الرحباني في واحدة من جلساتهما الغنائية التحضيرية. هذه الملاحظة تشير إلى المسافة الكبيرة التي يمكن اصطناعها بين حياة النجوم الواقعية، وتلك المتخيّلة، وما تفعله حكايات بسيطة عنهم حين تلفتنا ببساطة إلى أن تلك المسافة مجرّد وهم.

في الأمسية الحكائية "يا ليل يا عين" التي قُدّم ثاني عروضها مؤخراً، في "مركز الجيزويت الثقافي" في الإسكندرية، و"المركز الثقافي الفرنسي" في القاهرة، جرت استعادات كثيرة لنجوم قرن مضى عبر حكايات سردها خمسة مؤدون قدّموا العرض، والذي ينطلق من كتاب يحمل الاسم نفسه، "يا ليل يا عين"، للكاتبة والرسامة اللبنانية لميا زيادة (1968).

كتاب زيادة، وقد صدر بالفرنسية ثم ترجم إلى العربية في 2017، يحضر فيه نجوم القرن الماضي، بين القاهرة وبيروت ودمشق والقدس، وتحضر معهم حياتهم العادية - قبل الفنية - بما فيها من حب وشغف وبغض وانتقام وخيانات وسكر وشتائم وإطلاق نار وغيره الكثير. لكن استعادات الفنانين هذه لا تسبح في بحر من الحنين المجّاني أو الكيتشي، إنما تُعرَض هذه الحيوات الباذخة بكل ما فيها من مآس وحتى عبر، كأنما هي حكايات نميمة فنية لكنها مع ذلك محببة.

العرض الحكائي ذاته استثمر هذه الفكرة المهمة من الكتاب، إذ ما إن يبدأ أحد الحكائين افتتاحية العرض بقوله: "هنا القاهرة الآسرة الساحرة"، لترد عليه أخرى: "هنا الكدب والغش والمنظرة". ليس المقصود طبعاً القاهرة لِذاتها، إنما تلك الحالة من الاستعادات العاطفية الخالية من أي وجهة نظر نقدية.

الخيط الناظم لمجمل العرض الحكائي ككل انطلق من فكرة أخرى في الكتاب ذاته، إذ تعمل زيادة - في مقاطع ليست بالكثيرة في كتابها - على نسج حكاياتها الشخصية وحكايات عائلتها مع حياة أولئك النجوم والمشاهير، إما عبر تقاطعات علاقات واقعية وحية بالنجوم، أو علاقات تقتصر فقط على جانب إعجاب الجمهور بفنانهم المحبّب.

تحكي زيادة مثلاً عن المرة التي رأت فيها فيروز في الواقع، كتبت: "دخلتْ يوماً متجر جدّي في سوق الطويلة وكنت أنا موجودة. كان هذا في بداية السبعينيات. ومع أنني لا أحتفظ من تلك المرحلة إلّا بذكريات مبهمة، إذ كنت في حوالي الخامسة من عمري، بقي ذلك النهار الربيعي المبارك محفوراً إلى الأبد في ذاكرتي. كانت برفقة شقيقتها وقد غطّت رأسها بمنديل معقود تحت ذقنها وارتدت معطفاً مشمّعاً، ووضعت نظّارتين شمسيّتين رفعتهما فور دخولها. أحسست بألفة وجهها كأنه وجه جارة في طرف الشارع. لكنني لم أعرفها، على الرغم من الصمت الذي خيّم على المتجر لبضع ثوان. كما أن تهامس الموظّفين والزبائن وارتباكهم لم يُنبّهاني إلى ذلك.
لم أنتبه إلّا عندما سمعت الجملة السحرية من فم جدّي: "أهلاً وسهلاً ستّ فيروز، كيف حالك؟" نظرتُ مليّاً إلى هذه الزبونة العادية التي تحيطها هالة غامضة أدركت فجأة سببها. فسرعان ما راعني، أنا التي كنت أيضاً ذات حياء مَرَضي، التعرّف إلى تلك النجمة التي لم أرها إلّا على شاشة التلفزيون. وعندما نطقت تلك الكلمات "كيفك إنت خواجه أنطوان؟"، ردّاً على الترحيب الذي استقبلها به جدّي، تسمّرتُ في مكاني. فقد تعرّفت في الحال على صوتها".

من الاستعادات الشخصية هذه انبنت فكرة العرض، ليس من حكايات زيادة، وإنما من تقاطعات حكايات المشاهير مع حيوات فناني أمسية الحكي. إذ يحكي شادي عاطف بأسى ساخر عن قصة لقاء لم يجمعه بفيروز، أو على وجه الدقة عشاء خاص فوّته في زيارة له لسورية لأنه لم يكن يعرف أن فيروز من بين المدعوّين، هو الذي اكتسب اسمه - كما أشار - من أغنيتها الشهيرة "أنا وشادي".

عيسى مراد، العازف الموسيقي الفلسطيني حكى عن وله أبيه بفريد الأطرش، وكيف قرّر أن ينفق مدّخراته لينطلق في رحلة من بيت لحم مروراً بالأردن فسورية وصولاً إلى لبنان محاولاً أن يلتقي صاحب "قلبي ومفتاحو" في المطعم الذي يتناول غداءه فيه، وقبل ذلك كان قد تعاقد مع مصوّريْن فوتوغرافيين ليلتقطا له صوراً معه، الأمر الذي لم يتم، لتصل الحكاية مع الأب زائراً لقبر فريد الأطرش في القاهرة حين يفاجئه الابن بهذه الزيارة؛ إخلاصاً لمحبة أبيه وفتنته بمطربه.

لكن النوستالجيا ليست كلها وردية، فالمخرج المسرحي حسن الجريتلي، ومدير فرقة الورشة المسرحية، حكى عن علاقته بيوسف شاهين وصلاح جاهين، أثناء ما كان يقابل الثاني لكتابة أغنية لأحد أفلام الأول. كان جاهين قد دخل في اكتئاب طويل بعد هزيمة يونيو 67، فقال للجريتلي رداً على طلب شاهين "أنا انتهيت، ومنهم لله اللي كانوا السبب".

من جانبها، قدّمت اللبنانية آية الضِيقَة وصلة راقصة، كانت أسبقتها بحكاية غرامها بالراقصتين تحية كاريوكا وسامية جمال، وكيف كانت الأولى ترقص في محيط متر مربع واحد شاغلةً الدنيا، بينما كانت سامية جمال وهي الأنحف من كاريوكا تملأ المسرح كله بجسد خفيف كفراشة.

تحركت آية في رقصتها كما سامية جمال، ربما، وتنقلت بين جمهور العرض، وبدت الرقصة ذاتها كما لو كانت استعادة لرقص ذلك الزمن غير البعيد؛ حيث الجسد يمارس نفسه بلا أي انفعالات مبالغة بادعاء التحرر، أو ارتجاجات جسدية شبقية كما راقصات أيامنا. وفي استعادات كهذه لقرن كامل من الفن لن يغيب الغناء بالتأكيد.

لكن أغنيات العرض لم تكن منفصلة عن سياق الحكايات، لا يصمت الحكاؤون لأداء أغنية، إنما تأتي الأغنيات مع الحكايات في نسيج واحد، كأنما الغناء ليس إلا حكايات ملحّنة، وقد أدى الأدوار الغنائية ببراعة كل من عيسى مراد (مع عزفه للعود)، ومحمّد إسماعيل (عازفاً للطبلة أيضاً)، وزهراء أحمد التي أضفت بتلاوين صوتها وتعابير وجهها حالة من مزاوجة الأداء للمعنى المُغَنّى.

الحكّاؤون الخمسة توزّعت جنسياتهم بين المصرية والفلسطينية واللبنانية، كأنما هم التجسيد الحي للعنوان الفرعي لكتاب لميا زيادة؛ "القاهرة بيروت دمشق القدس"، ذلك الزمن الماضي المنثور في الكتاب، والذي كانت تكفي فيه تذكرة قطار أو حافلة للتنقل بسهولة بين العواصم العربية الكبرى.

 
المساهمون