سُئل المخرج الفلسطيني، هاني أبو أسعد، عن نسبة الحقيقي في أحداث فيلمه "يا طير الطاير"، فكانت إجابته مُفاجئةً: "الفنان محمد عسّاف كلّه فيكشن" (أي روائي/ غير حقيقي). لكنه لم يلبث أن استدرك قائلاً، إن أية قصة عندما توضَع في إطار سينمائي تصبح ذات رؤية روائية؛ أي أنها تخرج عن إطار "الحقيقي الصرف"، لتصبح ضمن رؤية المخرج الذي هو، بحسب أبو أسعد، "كالشاعر، يحقّ له ما لا يحقّ لغيره".
على الرغم من أن عسّاف شخصية راهنة، وقصّته ما زالت طازجةً ومعروفةً لجمهور عربي واسعٍ؛ فتىً جاء من بيئة بسيطة وانتقل إلى عالم النجومية، إلّا أن المخرج مصرّ على فكرته تلك: "يحقّ لي تغيير كل شيء"، يقول مُجيباً عن سؤالٍ حول تصدّيه لحكاية عسّاف التي لم تكن حكاية شخصية لم يعشها الناس.
هكذا، يردّ أبو أسعد على الجمهور وأسئلته المتوقّعة حول دقّة الأحداث في فيلمه أثناء مشاركته في "مهرجان دبي السينمائي" في دورته الثانية عشرة، والتي حاز إحدى جوائزها. إجاباتٌ تتأتّى من مخرج يعرف كيف يلتقط موضوعات أفلامه. وبعد "عمر" (2013)، أصبحت أكثر جماهيرية/ تجارية، ليكون صاحب تجربة جديدة في عموم ما يُنتج فلسطينياً من أعمال سينمائية؛ حيث تُعتبر الأفلام الفلسطينية أفلام مهرجانات، وتبتعد، إلى حدّ ما، عن التصنيف التجاري.
أمّا في حالة أبو أسعد، فهي تشارك في المهرجانات، وتمتلئ بها صالات العرض أيضاً. قد يكون هذا أحد أسباب عدم مشاركة الفيلم في برنامج المسابقة الرسمية في "مهرجان دبي"، فهو أقل من أن ينافس أفلاماً عربية قادمة من تجارب سينمائية مختلفة، أو حتى الأفلام الفلسطينية الأخرى.
إنها خلطة أبو أسعد التي يتقنها وتروق له، وربما تحتاجها السينما الفلسطينية. لكن قصة "محبوب العرب"، أو "يا طير الطاير"، التي ستعجب الجمهور المتحمّس للترفيه والنجاحات الفنية، وتروق لمن يريد أن يرى فلسطين بطريقة مختلفة عمّا تعرضها التقارير الصحافية، ستدفع بعضهم إلى طرح كثير من الأسئلة المهمّة في هذا السياق؛ أسئلة حول التجربة الفنية ذاتها، وعن تناول المخرج لهذا الموضوع تحديداً، وعن طريقة تقديمه له باستسلام تجاري، كما هو البرنامج الذي فاز به عسّاف.
يعرض الفيلم التحدّيات التي اعترضت طريق الفنان الشاب من بيئة احتلالية قامعة وواقع فلسطيني تنعدم فيه الإمكانيات والفرص. ويمكن القول إن هذا العمل تحديداً يستمدّ قيمته من قضية فلسطين المحتلّة؛ من المخيّم وصعوبات الحياة وموهبة الشاب المفعم بالإرادة، والذي يشكّل السياقُ الفلسطيني جزءاً أصيلاً من نجوميته، وكذلك الجمهور الذي أحب أن ينتج أيقونة، أو أسطورة فلسطينية خاصة مرتبطة به وبصعوبات حياته. لكن يبدو المغنّي (في الفيلم) واعياً بذلك؟ وهل ينتصر المخرج لتلك العلاقة؟ يبدو أن الإجابة هي كلّا.
يتناول الشريط الطويل حكاية صعود عسّاف، لكننا نفاجأ، في لحظةٍ ما، بتنصّل الشخصية من جوهرها ومصدر قوّتها؛ فعندما يُصاب الفنان بالضغط والتوتّر أثناء المسابقة الغنائية؛ يزور المستشفى، ويقول: "أنا مجرد فنان"، أي أنه في الجوهر، يبدو وكأنّه يتنصّل من الحكاية التي تمنحه استثنائيته، وعند ذلك سيكون مثل عشرات المغنّين الذين عانوا ثم وصلوا إلى النجومية، ويصبح الهدف المركزي لحياته مذ كان طفلاً "إسماع صوت الفلسطيني للعالم" بلا قيمة.
فعليّاً، لا قيمة حقيقية للفنان خارج سياقه. إلّا أن الفيلم أخرج البطل من هذا السياق بإرادته؛ ما يجعلنا نتساءل: ماذا عن الفنان الحقيقي الذي يعيش في دبي؟ ويرتبط بعقود احتكارية في الغناء والإعلانات؟
هكذا، ينساق العمل مع الحالة الفلسطينية والعربية التي تلعب فيها الميديا دوراً جوهرياً في صناعة الأحداث والنجوم وتشكيل الأذواق، وهي حالة يتداخل فيها السياسي بالفني والتجاري. تستسلم السينما لهذا الواقع وتتماهى معه، وهو الدور الذي ليس على الفن السابع أن يبتعد عنه فقط، بل عليه محاربته والتحذير منه أيضاً. لكن، هل يُنتظر ذلك من عمل محمول على موجة الجماهيرية التي حقّقها عسّاف؟
على صعيد الإخراج، يمكن تقسيم الفيلم إلى مستويين؛ الأول، بدا عليه أنه مشغولٌ باحتراف، من ناحية المكان وبيئة التصوير والممثّلين؛ حيث عساف في مرحلة الطفولة (صُوّرت أغلب مشاهده في مدينة جنين ومخيّمها). أما الثاني، فيمثّل مرحلة ما بعد ذهابه للمشاركة في برنامج المواهب في القاهرة وبيروت. يبدو هذا الجزء مترهّلاً، وفاقداً لتماسكه وإقناعه.
فبينما لعب الممثّلون الأطفال في القسم الأول من الفيلم أدوارهم بشكلٍ لافت، مُقدّمين أداءً جيداً منح الفيلم نكهة خاصة، بدا الممثل الذي أدّى دور عسّاف عندما كبر بلا شخصية، منحني الظهر في أغلب المشاهد، غير واثق الخطى، من دون أن نتلمّس مبرّراً درامياً لذلك. امتدّ هذا الضعف ليشمل ممثّلين آخرين، مثل منال عوض التي قدّمت دور والدته. يُضاف إلى ذلك أن دور الأسرة وعلاقتها بالفنان انسحبت إلى خلفية العمل.
في نهاية الفيلم؛ أي لحظات فوز عساف في برنامج المسابقات، نقلت الكاميرا صوراً أرشيفية كثيرة، كما أنها حاولت نقل أجواء الأسرة الخاصة به وبرفاقه، من دون أن تمرّ النهاية بلا أخطاء، إذ كانت المشاهد في واد وتصفيق الجماهير في واد آخر.
اقرأ أيضاً: "بلال": حكايات عربية للتسويق العالمي