جديد العراقي عباس فاضل (1959) مُعنون بـ"يارا" (2018). الموقع الجغرافي لمضمونه مُتمثّل بقرية لبنانية موغلة في عزلةِ طبيعةٍ رائعة (وادي قنوبين ـ قاديشا، شمال لبنان). الكاميرا تلتقط تفاصيل حياة يومية لشابّة مُقيمة مع جدّتها، وحولهما حيوانات عديدة (ماعز وكلب وحمار ودجاج وقطط). الملابس عادية للغاية. بعض الجيران يتفقّدهما، ويجلب لهما ضرورات المأكل والمشرب. حياة عادية للغاية. لا جديد يحدث. لا جديد يُقدَّم.
رغم هذا، هناك حماسة كاميرا سينمائية لتصوير عالمٍ متكامل. حماسة تدفع إلى متابعة تفاصيل دقيقة في يوميات أفرادٍ، وفي مشاعر ورغبات. هدوء لا يحتمله إلاّ المُقيمون فيه، وربما أحيانًا. تسجيل الأصوات يُساهم في تفعيل واقعية مُستلّة من عيشٍ لا يتبدّل. حماسة تذهب بالكاميرا إلى توثيق مكانٍ وحالات وانفعال، والتوثيقُ سينمائيٌّ، يستمدّ مفرداته من وقائع يومية، يضعها في إطارٍ بصريّ يبوح بأحوال ذاتٍ وحيّز مكانيّ. حماسة تكتفي بتلك الوقائع اليومية المعتادة، غير المتبدّلة. فقدان المتوقّع جزءٌ من لعبة سينمائية، يحاول عباس فاضل الارتكاز عليها في سرد حكاية حبّ بين مُراهِقَين، في بقعة جغرافية تبدو كأنها جنّة. حبّ عذري كعذرية طبيعة غير مأهولة إلاّ قليلاً، فأبناء البلدة مهاجرون أو غائبون في الموت، ومن الغائبين في الموت والدا يارا (ميشيل وهبه).
لا قصّة ولا حبكة ولا تعقيدات ولا مصاعب ولا صدمات. سياق مُحمَّل بمَشَاهد وصمت، وأصوات الطبيعة غالبةٌ. كلام قليل. حوارات قليلة. هذا واقعيّ للغاية، في بلدة يندر حدوث شيء فيها يُثير ضجّة أو تغييرًا. الصمت أساسيّ، والكلام يختصر المطلوب. ليس "يارا" وثائقيًا عن بلدة شمالية في لبنان، لكنّ فيه لقطات تبدو كأنها توثيق سينمائيّ. اختيار المكان مرتبطٌ بتصوّر درامي وجمالي للنص السينمائيّ الأصلي، الراغب في نقاء وصفاء يندر العثور عليهما في أمكنة أخرى. مرتبط أيضًا بجاذبية تُثير في عباس فاضل رغبة التمتّع بسحر المكان، فيُصوِّر طويلاً ومديدًا، إلى درجة يبدو معها عاجزًا عن قول "إقطع". يُصوِّر في المكان ما يبغي تصويره، وهذا غير كثير وغير مدّع وغير متصنّع، إذْ يكتفي بأفعالٍ وأحاسيس معتادة، كي ينصرف بكاميراه إلى ما تُثير الطبيعة فيه هو كمخرج من انفعالات.
قبل الصدمة، ترافق يارا حبيبها في جولات مختلفة. تُعرّفه على بلدتها. تروي له أشياء وأشياء. يلعبان معًا. يتسلّيان معًا. يحبّان معًا. يتسلّلان إلى منازل مهجورة وأمكنة غير مأهولة لها ماضٍ وذكريات. يتمدّدان على الأرض. ينامان. يحلمان. ينتبه زائرو المنزل إلى غريبٍ، فيقولون ما يُقال عادة من ضرورة التنبّه، فالشابّة "تلفِت النظر"، وهي في سنّ زواج. هذا كلّه متداول ومعروف. هذا نمط حياة في قرى وبلدات. الدليل السياحي (الياس القاضي) يُنبِّه يارا إلى أن بعض زيّها غير ملائم. يبدو كأنه يتلصّص عليها. سائق البغل (شربل القاضي) يسأل عن الغريب. هذه أمور معتادة. سردها لن يُعطِّل المُشاهدة.
مع هذا، هناك شيءٌ سينمائيّ في التقاط اليوميات، يتمثّل بكاميرا (فاضل) لن تشبع من التهام كلّ ما تراه عدستها، وبمخرج يتردّد في إيقاف التصوير. مدّة الفيلم (100 دقيقة) طويلة قليلاً، قياسًا إلى مضمونٍ يتكرّر من دون ملل، قبل أن يُصبح التكرار ثقيلاً. الاكتفاء بنقل وقائع إلى الشاشة الكبيرة عاملٌ إيجابيّ في صناعة فيلمٍ، يتّضح (الفيلم) أنّه غير راغبٍ في ألاعيب وادّعاءات، بقدر ما ينصرف إلى التقاط الواقع كما هو.
بعض التكثيف والاختزال مطلوبٌ. مع هذا، هناك متتاليات تبدو كأنها مقاطع مستقلّة، قبل أن يُضفي التوليف (فاضل) عليها طابعًا سرديًا لمسائل مختلفة. التمثيل محتاجٌ إلى صقلٍ، فمُقدّمو الشخصيات القليلة غير محترفين. شخصيات تأتي وتذهب، تقول وتصمت، تعيش وتغيب. أداء يبدو أحيانًا كأنه مثقل بعفوية زائدة، إذْ يُمكن للكاميرا أن تُربكها. لكن هذا لن يحول دون تواصلٍ بين ما تلتقطه عدسة الكاميرا وما تُشاهده عين المُتابع. إطالة الوقت تُقلِّل من تلك القيم البسيطة والجميلة، إذْ يُمكنه إثارة تساؤل عن موعد "النهاية".
"يارا" فيلم صُوَر وانفعالٍ. هذا أساسيّ في السينما. يحتاج إلى تكثيفٍ واختزال. هذا ضروري.