"وليلي" للمغربي فوزي بنسعيدي: سينما القسوة

15 يناير 2018
من "وليلي" للمغربي فوزي بنسعيدي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
لن يكون مهمّاً التوقّف طويلاً عند الدلالات التاريخية والأثرية واللغوية المتعلّقة بعنوان الفيلم الجديد للمغربي فوزي بنسعيدي (مكناس المغربية، 14 مارس/ آذار 1967)، "وليلي" (2017). فالاسم بربريّ، له أصلٌ لاتيني، معتَمد في العنوان الأجنبي للفيلم نفسه: Volubilis. لكن معطيات قليلة حول هذا كلّه تُفيد في محاولة التوغّل في ثنايا الروائي الطويل الرابع، المرتكزة على سردٍ مُبسَّط وهادئ لحكاياتٍ، تحمل في طياتها غليان بيئة، وغضب أفراد، وقهر جماعات؛ وتعكس شيئاً من مرارة العيش في ضيقٍ واختناق.

يقول العالِم الفرنسي بفقه اللغة، فليكس غافّيو (1870 ـ 1937)، إن أصل اسم المدينة ـ "المثير لجدلٍ كبيرٍ" ـ متأتٍ من اللاتينية "فولوبيليس"، التي تعني "مالك حركة ملتفّة حول محور". بينما يذهب الاسم البربري، "وليلي"، إلى معنى آخر، يرمز إلى "زهرة اللبلاب".

أياً يكن، فإن إسقاطات المعاني، التي يحملها العنوان باسميه البربري واللاتيني، على المضمون الدرامي لجديد فوزي بنسعيدي، تُساهم في تبيان بعض ملامح الحبكة ومناخاتها، لكنها لن تساعد كثيراً على التمتّع بأصالة الصنيع السينمائي: تفكيك بيئة اجتماعية، بامتداداتها الطبقية والإنسانية والسلطوية والسلوكية، عبر سردٍ متتالٍ لمسارات فردية، تضع كثيرين في مواجهة بعضهم البعض، ولعلّها تتوصّل ـ في لحظة ما ـ إلى جعل كلّ واحد منهم يُواجه ذاته، بطريقة أو بأخرى.

فاختيار اسم مدينةٍ ـ قائمة في المغرب منذ أزمنة بعيدة (يقول البعض إنها معروفة منذ القرن الثالث قبل الميلاد، بينما يؤكّد آخرون أن مكوّناتها المختلفة تطوّرت، بشكلٍ خاص، بدءاً من القرن الثاني الميلادي)، يقترب موقعها الأصليّ من مكناس (مدينة المخرج) ـ مزيجٌ بصريّ بين الأسطوريّ والواقعي، وبين التاريخي والراهن. أم أنه مجرّد انبهار ذاتي للسينمائيّ ببعض أزمنة كاشفةٍ أهوالاً ومصائب مستمرّة؟

بعيداً عن هذا كلّه، يرتكز "وليلي" على حكايتين واقعيتين وعاديتين، تصطدمان ـ ذات لحظة درامية ـ إحداهما بالأخرى، فتنكشف وقائع عيشٍ في بؤس وخراب وارتباك ومتاهات وأكاذيب، يعانيها "أبطال" الحكايتين معاً، وإنْ ينتمي فريقا الحكايتين إلى فئات وبيئات متناقضة. وإذْ تبدو مفردة "حكاية" غير صائبة كلّياً، لأن المسألة برمّتها متعلّقة بحالات وانفعالات وسلوكٍ، أكثر من مجرّد سرد قصة؛ فإن الهامش، المرافق للمسارات، يمتلك خصوصية تتكامل مع الحكايتين، لتمكّنه من احتلال واجهة المشهد أحياناً، بفضل قدرته على التلاعب بمصائر فردية، أو لبراعته في إلغاء الفروقات القائمة، فيتساوى الجميع في المصيبة، وإنْ يختلف وَقْع مصيبة عن وَقْع أخرى، على هذا أو ذاك.

ذلك أن "وليلي" منصبٌّ على معاينة دقيقة لأحوالٍ تكشف أهوالاً، ولمسارات معلّقة أو ملتبسة، ولانفعالات مُشوَّهة أو محطَّمة، وإنْ يُخفيها البعض في انتماءٍ إلى سلطةٍ، أو في التزام عزلة، لن يكونا (الانتماء والالتزام) كامِلَين، بقدر ما تتمكّن ملامح أفرادٍ من إخفاء الخراب، المُتَرجم (الإخفاء) إلى بطشٍ وسطوةٍ واعتداء. وهذا معقودٌ على قامعٍ ومقموع، وعلى صاحب سلطة وخاضع لها، وعلى انتهازيّ وعفويّ. نماذج بشرية مُقدَّمة بواقعيتها وأحاسيسها ومشاغلها، تبقى خارج تصنيفات نقدية، تُريد فهم النص ودلالاته، وترغب في ممارسة لعبة التفكيك، فإذا بـ "وليلي" قادرٌ على منح الفهم واللعبة منافذ عديدة، تتيح دخولاً "ممتعاً" إلى عوالم القهر والألم والدموع، والرغبات المقموعة، والأمل الموءود.

مليكة (نادية كوندي) عاملة تنظيفات، تجتهد في أعمالٍ متفرّقة، وتسعى إلى زواجٍ من حبيبٍ، يُدعى عبد القادر (محسن ملزي)، يعمل حارساً في مركز تجاري. الفقر حالة يسعى الثنائي إلى خلاصٍ منها، لن يتمّ إلا بخروجٍ من المدينة. رغم هذا، لن ينصاع الثنائيّ، فترة طويلة، لفسادٍ يُعشِّش في نفوس وتفكير وسلوكٍ، قبل أن يُصاب (الثنائيّ) بمزيدٍ من قهر، لأن عبد القادر لن يسمح لسيدة متصابية أن تتجاوز أناساً كثيرين ينتظرون دخولهم إلى متجر. فالسيدة زوجة متسلّط كبير، يُدعى سي محمد (بنسعيدي نفسه)، لن يتردّد لحظةً واحدة ـ رغم اهتراء علاقته الزوجية بشدّة (كما يتبيّن لاحقاً) ـ عن ارتكاب الفعل المعهود بالنسبة إليه: إذلال "المعتدي"، وتحطيم صورته ككائن بشري، وككيان فردي له انفعال وكرامة.

يُغري "وليلي" بامتلاكه مفاتيح جمّة لقراءات نقدية، تتناول الاجتماعي والنفسي والثقافي/ التربوي، في اجتماعٍ مغربيّ مُصاب بلعنة التمزّق والانهيارات. فالإذلال بداية انحدارٍ قاسٍ في جحيم العالم السفلي، الذي يغرق عبد القادر فيه، آخذاً معه، بشكلٍ غير مباشر، محيطه. وعمل مليكة في منازل فخمة، إذلال من نوع آخر، لكنه مجال لرؤية وقائع وحالات. أما "الخروج" من انغلاق كلّ شيء عليهما فمُصيبة إضافية، توقعهما في خرابٍ دائم.

وإذْ يبرز التسلّط في حالات درامية أخرى، فإن انهيار كلّ شيء يظهر في أمكنة متناقضة بين طبقتين متنازعتين، خارج الصدام الحاصل بين مليكة ـ عبد القادر وسي محمد. لكن "وليلي" ـ المحتاج إلى قراءات نقدية أكثر وأعمق، لامتلاكه مساحات درامية وجمالية وإنسانية بديعة، تستكمل المشروع السينمائي لفوزي بنسعيدي في أفلامه الثلاثة السابقة ("ألف شهر"، 2003؛ و"يا له من عالم جميل"، 2006؛ و"موت للبيع"، 2011) ـ يستند، في هذا، إلى تماسك سينمائي بين أداء ومعالجة واشتغال فني ـ تقني، يُساهم في إضفاء جمالية قول وبوح قاسيين، عن راهنٍ واقعيّ أقسى.



دلالات
المساهمون