"وريثات" مارتينيسي: عفوية السرد

05 أكتوبر 2018
مارسيلو مارتينيسي (فيسبوك)
+ الخط -
في الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)"، نال "الوريثات" لمارسيلو مارتينيسي (1973) مديحًا وديًا لافتًا للانتباه من نقاد ومشاهدين، قبل اكتمال ذلك بفوز آنا بْرون (وهي الخمسينية التي تقف أمام الكاميرا السينمائية للمرة الأولى) بجائزة "الدب الفضّي" كأفضل ممثلة. لم ينبع الاحتفاء الكبير من كون الفيلم العمل الأول لمخرج آتٍ من بلدٍ (باراغواي) لا يُنتج فيلمًا إلّا كلّ أعوام عديدة، ولا لأن مخرجه يتّخذ خيارات ثرية جدًا بشأن بطلات فيلمه، ودمج بعض الشخصيات الحقيقية في حبكة العمل. الأهم أنّ الفيلم مختلفٌ في عناصره كلّها، ويحكي ـ بحساسية كبيرة ـ عن مشاعر امرأة في خريف عمرها، لم تعد الأفلام في العالم تهتم بأمرها. لكن مارتينيسي يهتمّ بها، مانحًا إياها 95 دقيقة على الشاشة الكبيرة بلغة سينمائية هادئة ورزينة تخفي أكثر مما تكشف، دافعًا إلى التواصل مع ما في داخلها.




يتحرك الفيلم ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة في الدورة الثانية (20 ـ 28 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ مع شخصية تشيلا من بدايته إلى نهايته. في البداية، تظهر علاقتها برفيقتها تشيكيتا (مارغريتا إيرون)، في الخمسينيات من عمرها هي أيضًا. متباينتان جدًا في الطباع، إذْ تستحوذ تشيكيتا على اهتمام المُشاهد لأنها اجتماعية ولبقة ومتحدثة، بينما تبتعد تشيلا لأنها مكتئبة وحذرة وغاضبة في تلك اللحظة من حياتها. تعيشان معًا منذ عقود (يتيح الفيلم مساحة فهم طبيعة علاقتهما، من دون أن يكشف أو يصرّح). تعانيان ضائقة مالية حادّة تدفعهما إلى بيع أثاث البيت الضخم الذي تعيشان فيه. لكن تشيكيتا تُسجن بسبب توقيعها على أوراقٍ وديون. فجأة، تُصبح تشيلا وحيدةً في البيت، مع مخاوفها وهواجسها وحزنها. يتغير هذا الوضع قليلاً مع عملها كسائقة (سيارتها الخاصّة) لسيدات مسنّات. أثناء ذلك، تتعرّف إلى الشابة آنجي (آنا إيفانوفا). شيئًا فشيئًا، تشعر إزاءها بشيء حسّي وعاطفي.
يدرك مارسيلو مارتينيسي ما يُحرِّك فيلمه. هدفه الأساسي كمخرج خلق صورة مقرّبة لتشيلا، والتأثّر بتفاصيل صغيرة هشّة جدًا، تغيِّر عالمها ببطء. هناك فجوة وحالة نفور كبير بينها وبين السجن وعالمه، هي السيدة المتحدّرة من طبقة بورجوازية، قبل انكشاف اهتمامها بآنجي، المتمثّل في خليطٍ من النظرات العابرة والوقوف أمام المرآة ثوانيَ إضافية. مارتينيسي رقيق إلى درجة أنه يجعل أمرًا عابرًا، كتدخين تشيلا سيجارة للمرّة الأولى في حياتها، كافيًا لمعرفة الأثر الكبير الذي يحدث في حياتها في الوقت هذا. هناك أيضًا الارتباك الشديد الذي تمرّ به بين رغبتها في آنجي والعقود الطويلة التي تجمعها بتشيكيتا.
بهذا كلّه، يعي مارسيلو مارتينيسي طوال الوقت كيفية سرد حكاية فيلمه بحساسية، من دون أحكام أو مساءلات لشخصياته. فما يحركه صدق مشاعرهنّ فقط، بالتناقضات والهواجس كلّها التي تنتابهنّ.


سينمائياً، يعتمد مارتينيسي على أكبر قدر من البساطة واللازخرفة، ليمنح فيلمه الواقعية والهدوء المناسبين لحكاية سيدة في الخمسين من عمرها. لا حوارات طويلة. لا حركة مُعقّدة للكاميرا. لا مَشَاهد درامية حادّة. كلّ شيء يتّخذ إيقاع تشيلا وانفتاحها الحذر على العالم، في لحظة مرتبكة من حياتها.

رغم موهبة مارتينيسي الظاهرة كسيناريست ومخرج، فإن منجزَه الأكبر إدارتُه لممثّلاته اللواتي يقفن أمام الكاميرا للمرّة الأولى: مارغريتا إيرون وآنا إيفانوفا والعجائز وسيدات السجن اللواتي تروي بعضهنّ حكاياتها الحقيقية. وقبلهنّ الممثلة آنا بْرون نفسها، حاملة روح الشخصية والفيلم معًا، التي تُقدّم أداءً عظيمًا تستحق عنه جائزتها في "برليناله".
دلالات
المساهمون