يُثير "ورد مسموم" (2018) للمخرج المصري أحمد فوزي صالح (1981) جدلاً غير سينمائيّ بعد عرضه في اليوم ما قبل الأخير من الدورة الـ8 (5 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" (السويد). صدامٌ مصري بين عاملين في المهنة نفسها: ممثلٌ يُهاجم مخرجًا لأن المخرج يغوص في واقع إنسانيّ قاسٍ، فيرى الممثل في هذا إساءة وتشويهًا. الممثل نفسه (بيومي فؤاد) يؤدّي دورًا هامشيًا في "طلق صناعي" (2017) لخالد دياب (1979)، المعروض في افتتاح الدورة نفسها، وهو دور مُسيء إلى التمثيل الكوميدي والتهريج السينمائيّ والأنواع المُضحكة كلّها، لشدّة سطحيته، والممثل هنا مؤدٍّ سيئ له. المخرج مختلفٌ تمامًا. أسلوبه منتمٍ إلى سينما تمتلك جمالياتٍ بصرية وفنية ودرامية وتمثيلية مُثيرة للانتباه والنقاش.
"ورد مسموم" حقيقيٌّ لشدّة واقعيته، وصادم لشدّة اختراقه المحجوب، وجميل لشدّة تمكّنه من لغة سينمائية تقول بالصورة والانفعال والمناخ ما يعجز "أجمل" المكتوب عن وصفه. تكثيفُه الدرامي فعلٌ جماليّ، وتخفيفُ مساحة الكلام امتدادٌ لجمال الصورة السينمائية في مقاربتها قسوة الواقع وبشاعة ظروفه وتمزّقات ناسه. الأداء منسجمٌ ومرارات شخصيات مستلّة من جحيم الواقع نفسه. توليفه يُزيل كلّ فصلٍ بين لقطاته وانفعالات ممثليه وهواجسهم المُعبَّر عنها بنظرة أو حركة أو قولٍ طفيف. هذه كلّها تصنع منه فيلمًا يُساهم في تحطيم سطوة الاستسهال والتسطيح والتجهيل، ويجعل الصورة مدخلاً إلى عوالم إنسانية مرتبكة وتائهة في تلوّث موزّع على المياه والهواء، وعلى نفوسٍ وأرواح هائمة في متاهة عيشٍ قاسٍ ومُخيف.
التعمّق في أحوال أفرادٍ وتناول يومياتهم بدقائقها ومناخها وهوامشها وجوهرها يكشف عوالم يعرفها أحمد فوزي صالح جيّدًا، إذْ له معها تجربة سابقة تتمثّل في وثائقي يُنجزه عام 2011 بعنوان "جلد حيّ"، الذي يغوص في عالم المدابغ كمهنة وعيشٍ يومي برفقة المرض الذي يُشيعه استخدام المواد الكيماوية في تلك المهنة. "ورد مسموم" ينتقل إلى عالم الكبار مع تحية (مريهان مجدي) وشقيقها صقر (إبراهيم النجاري)، بعد انكشاف عالم المدابغ، أو بعضه على الأقلّ، في "جلد حيّ" عبر صبيين صغيري السنّ، هما محمد فرج وشوشو. الوثائقيّ يقول الحكاية ويعكس الحالة بلغة سردية مفتوحة على الروائيّ، إذْ تنعدم الفواصل بين الأنواع لأن الأهم كامنٌ في صنع فيلمٍ له مقوّمات سينمائية متماسكة. الروائي الطويل يقول الحكاية نفسها ويعكس الحالة نفسها باعتمادٍ أكبر وأعمق على الصمت، وتفاصيل الإضاءة والتصوير (ماجد نادر) والتوليف (منّة الشيشيني وقتيبة برهمجي) والصوت (سارة قدوري). هذا كلّه منبثقٌ من سيناريو (فوزي صالح نفسه) مأخوذ عن رواية لأحمد زغلول الشيطي (1961) بعنوان "ورود سامة لصقر" (1990).
هذا بعض ما في "ورد مسموم" من جماليات. مُشاهدته ممتعة رغم القسوة والواقعية الحادّة في كشف حقائق ووقائع عن عالم مُصاب بأعطابٍ جمّة. صقر، العامل في إحدى المدابغ، راغبٌ في خلاص مُعطَّل. شقيقته تحية ـ الموحية بحبّ له يختلف عن علاقة شقيقين أحدهما بالآخر ـ تهتمّ به كأمٍ وأختٍ وحبيبة وصديقة. تراه عالَمَها. تخشى عليه. تذهب إليه بطعام الغداء كل يوم. تمشي في أزقة قذرة وملوّثة كي تبلغ المصنع. تبحث عنه عند انتقاله إلى عمل آخر من دون إخبارها. تلتصق به كي لا يفلت منها. هو دنياها وعيشها. تشعر بحصارٍ إضافيّ يخنقها عندما يبدأ صقر بتفلّت بطيء منها. لديه صديقة. يجمع مالاً للسفر. لكن شيئًا جديدًا لن يحدث في حياته، ولا في العيش اليومي لتحيّة. الأم شبه غائبة. الأب متوفٍ. زيارة القبر تقليد، لكن تحيّة تجد نفسها وحيدة هناك. تلتقط ورودًا حمراء من القبور، قبل ذبولها. تمشي بين القبور صامتة، فتوهم الزائرين القلائل بأنها تتأمّل، لكنها تبدو كأنها مكتفية بزيارة تقليدية.
عالمٌ متكامل يُقدِّمه "ورد مسموم". عالمُ فقر وألم وتلوّث وتمزّق وأمراضٍ تُصبح كلّها أركان عيشٍ يومي. الساحر كروان (محمود حميدة، المنتج المُشارك للفيلم أيضًا عبر شركته "البطريق") يبدو عينًا تراقب وتسهر على مجتمع غارقٍ في القهر والوجع. لكنه منسحبٌ إلى حياته الخاصّة وسط كراهية البعض له وخوف بعضٍ آخر منه.
اللقطات الأولى مُكثَّفة بتعبيرها عن المكان وتفاصيله وأهواله وخيباته وانكساراته وموته البطيء. ساقيةٌ مُصوّرة من أعلى تبدو نهرًا يتلوّث شيئًا فشيئًا بسبب المواد المستخدمة في المدابغ، قبل أن تنكشف الساقية عن ذاك العالم الغارق بالهول والتبعثر. اللقطة من أعلى عينٌ ترى وتُراقب لكنها غير قادرة على تبديل أي شيء. فكلّ شيء يبقى على حاله بعد سردٍ سينمائيّ مفتوح على أسئلة جمّة عن معنى الحياة في الموت.
التجربة الروائية الأولى لأحمد فوزي صالح منخرطةٌ في نتاجٍ سينمائي شبابي مصري، يصنع سينماه خارج سلطة الإنتاج التقليدي المتحكّم بصناعة السينما والمؤثِّر سلبًا فيها. نتاج يستقي تجاربه من تاريخ وراهن وانفتاح ووعي، كي يقول بالصورة شيئًا من أحوال وتأمّلات وسرديات.
التعمّق في أحوال أفرادٍ وتناول يومياتهم بدقائقها ومناخها وهوامشها وجوهرها يكشف عوالم يعرفها أحمد فوزي صالح جيّدًا، إذْ له معها تجربة سابقة تتمثّل في وثائقي يُنجزه عام 2011 بعنوان "جلد حيّ"، الذي يغوص في عالم المدابغ كمهنة وعيشٍ يومي برفقة المرض الذي يُشيعه استخدام المواد الكيماوية في تلك المهنة. "ورد مسموم" ينتقل إلى عالم الكبار مع تحية (مريهان مجدي) وشقيقها صقر (إبراهيم النجاري)، بعد انكشاف عالم المدابغ، أو بعضه على الأقلّ، في "جلد حيّ" عبر صبيين صغيري السنّ، هما محمد فرج وشوشو. الوثائقيّ يقول الحكاية ويعكس الحالة بلغة سردية مفتوحة على الروائيّ، إذْ تنعدم الفواصل بين الأنواع لأن الأهم كامنٌ في صنع فيلمٍ له مقوّمات سينمائية متماسكة. الروائي الطويل يقول الحكاية نفسها ويعكس الحالة نفسها باعتمادٍ أكبر وأعمق على الصمت، وتفاصيل الإضاءة والتصوير (ماجد نادر) والتوليف (منّة الشيشيني وقتيبة برهمجي) والصوت (سارة قدوري). هذا كلّه منبثقٌ من سيناريو (فوزي صالح نفسه) مأخوذ عن رواية لأحمد زغلول الشيطي (1961) بعنوان "ورود سامة لصقر" (1990).
هذا بعض ما في "ورد مسموم" من جماليات. مُشاهدته ممتعة رغم القسوة والواقعية الحادّة في كشف حقائق ووقائع عن عالم مُصاب بأعطابٍ جمّة. صقر، العامل في إحدى المدابغ، راغبٌ في خلاص مُعطَّل. شقيقته تحية ـ الموحية بحبّ له يختلف عن علاقة شقيقين أحدهما بالآخر ـ تهتمّ به كأمٍ وأختٍ وحبيبة وصديقة. تراه عالَمَها. تخشى عليه. تذهب إليه بطعام الغداء كل يوم. تمشي في أزقة قذرة وملوّثة كي تبلغ المصنع. تبحث عنه عند انتقاله إلى عمل آخر من دون إخبارها. تلتصق به كي لا يفلت منها. هو دنياها وعيشها. تشعر بحصارٍ إضافيّ يخنقها عندما يبدأ صقر بتفلّت بطيء منها. لديه صديقة. يجمع مالاً للسفر. لكن شيئًا جديدًا لن يحدث في حياته، ولا في العيش اليومي لتحيّة. الأم شبه غائبة. الأب متوفٍ. زيارة القبر تقليد، لكن تحيّة تجد نفسها وحيدة هناك. تلتقط ورودًا حمراء من القبور، قبل ذبولها. تمشي بين القبور صامتة، فتوهم الزائرين القلائل بأنها تتأمّل، لكنها تبدو كأنها مكتفية بزيارة تقليدية.
عالمٌ متكامل يُقدِّمه "ورد مسموم". عالمُ فقر وألم وتلوّث وتمزّق وأمراضٍ تُصبح كلّها أركان عيشٍ يومي. الساحر كروان (محمود حميدة، المنتج المُشارك للفيلم أيضًا عبر شركته "البطريق") يبدو عينًا تراقب وتسهر على مجتمع غارقٍ في القهر والوجع. لكنه منسحبٌ إلى حياته الخاصّة وسط كراهية البعض له وخوف بعضٍ آخر منه.
اللقطات الأولى مُكثَّفة بتعبيرها عن المكان وتفاصيله وأهواله وخيباته وانكساراته وموته البطيء. ساقيةٌ مُصوّرة من أعلى تبدو نهرًا يتلوّث شيئًا فشيئًا بسبب المواد المستخدمة في المدابغ، قبل أن تنكشف الساقية عن ذاك العالم الغارق بالهول والتبعثر. اللقطة من أعلى عينٌ ترى وتُراقب لكنها غير قادرة على تبديل أي شيء. فكلّ شيء يبقى على حاله بعد سردٍ سينمائيّ مفتوح على أسئلة جمّة عن معنى الحياة في الموت.
التجربة الروائية الأولى لأحمد فوزي صالح منخرطةٌ في نتاجٍ سينمائي شبابي مصري، يصنع سينماه خارج سلطة الإنتاج التقليدي المتحكّم بصناعة السينما والمؤثِّر سلبًا فيها. نتاج يستقي تجاربه من تاريخ وراهن وانفتاح ووعي، كي يقول بالصورة شيئًا من أحوال وتأمّلات وسرديات.